الحديدة.. الإهمال يعرض معالم المدينة التاريخية للاندثار

> وفاء أحمد

> في شهر ديسمبر من العام 2022، وثّق مواطنون في باب مشرف بمديرية الحوك بمحافظة الحديدة (شمال غربي اليمن)، سقوط جزء من مبنى قديم مكون من طابقين على أحد المطاعم الشعبية، الحادثة ولّدت حالة من الهلع في نفوس المارة وسكان المنازل المجاورة.

يفيد مواطنون من سكان الحي أنّ أحد الأشخاص الذين يعملون في المطعم الشعبي -وهو جزء من الدور السفلي من المبنى- قد نجا بأعجوبة، سمع فجأة المارّة وملّاك المحال المجاورة يطلبون منه الخروج، وبعد أن شاهد الأتربة تنهال من الطابق العلوي، غادر المكان قبل ثلاثين ثانية من سقوطه، ولم يصب بأذى.

كانت هذه المرة الثانية التي ينهار فيها جزء من هذا المبنى، فقبل شهور كانت قد سقطت بعض جدران الدور العلوي، وفي كلا المرات لم يصب أحد، خاصة أنّ السكان المجاورين له والمارة مدركون تمامًا سقوطه بالكامل في أي وقت؛ لأنه من أقدم المنازل في المكان، وعمره يزيد على مئتَي عام، كما يؤكد سكان المنطقة.

يتحدث كذلك بهذا الخصوص المواطن أحمد داؤود بالقول: "منذ فترة طويلة وهو يقذف حفنات أتربة من وقت لآخر، ثم بدأت تظهر عليه تشققات كبيرة سبقت سقوطه وانهياره بالكامل".

ويقول سكان هذه المنطقة إنّ جدران الدور العلوي والتي لم تنهَر بعد، باتت آيلة للسقوط وتهدد حياتهم، وناشدوا الجهات المختصة بالمحافظة، إزالة بقايا المنزل حتى لا يتأذى أيٌّ منهم. لا سيما أنه محاط بالعديد من المباني ويطل على شارع رئيسي مزدحم بالمركبات والمارّة، الذين يقصدون سوق باب مشرف التاريخي والمناطق المجاورة والقريبة منه.

ويحكي أحمد عياش، وهو أحد الصيادين الجائلين، أنّ الرياح القوية التي شهدتها الحديدة في شهر مايو المنصرم 2023، قد أدّت إلى سقوط أحد المباني القديمة في حي الكورنيش بمديرية الحوك.

لا تتوقف المشكلة عند منطقة معينة، بل -كما يلاحظ- تعاني كثيرٌ من المناطق في مدينة الحديدة ومديرياتها من هذه المشكلة، المتمثلة بوضعية العقارات والمباني السكنية المتردية والمهددة بالسقوط، ففي مديرية الحالي وسط الحديدة، يلفت انتباهك عديدٌ من المباني المتهالكة، منها مبنى يتكون من أربعة طوابق يطل مباشرة على الشارع الرئيسي، مشهد يجعل المارة من أمامه يتخيلون سقوطه في أي لحظة، خاصة أن جدرانه من الداخل تظهر عليها تصدعات وشقوق.

استطلعت "خيوط"، آراء المواطنين في هذه المنطقة، إذ يؤكّد أحد السكان بالقرب من هذا المبنى، أنه كان فندقًا منذ أكثر من عشر سنوات، وفجأة تم إخلاؤه، كانت بعض جدرانه قد بدأت تتشقق، وهو ما جعلنا -وفق حديثه- ندرك أن المبنى بدأ يتهالك، خاصة الأدوار العلوية منه.

بحسب ما رصدته "خيوط"؛ فإن هذا المبنى بعد إخلائه بفترة قصيرة كان هناك عمال يتهيَّؤُون لإعادة ترميمه، لكنهم توقفوا بشكل مفاجئ وتركوا المبنى على ما هو عليه من وضعية خطيرة تجعله معرضًا للسقوط في أي لحظة.

المباني القديمة


تجولت "خيوط" في عدد من مناطق مدينة الحديدة، إذ يلاحظ في كثير من المباني، خصوصًا القديمة، ما هي عليه من وضعية خطيرة بسبب تهالكها وتقادمها، فيما تعاني أخرى حديثة من عيوب هندسية رافقت عملية بنائها.

محمد علي، من سكان مدينة الحديدة، يشكو من خطر المباني القديمة، فهو يعمل في إحدى المحال التجارية في المدينة، والذي يعتليه طابقان لمبنى قديم متهالك، يقول: "المبنى يتكون من أربع شقق جميعها مؤجرة، على الرغم من أنّ التشققات والشروخ واضحة على المبنى من الخارج".

كما أنّ هناك علامات تدل على أنه قد تم ترميمه مرات عدة، لكن الشقوق قد ظهرت في أماكن أخرى، وكذلك في السلالم والجزء العلوي من السطح.

ويتابع علي: "عدة مرات تتساقط الطوب والأحجار من سطح المحل، وكذلك من الجدران، وقد أخبرت مالك المبنى لكن دون فائدة".

فضلًا عن أنّ هذا المبنى المتهالك مهجورٌ ولا أحد يسكنه منذ فترة طويلة، لذلك لم تتحمل جدرانه شدة الرياح ولحسن الحظ، كما يفيد مواطنون من السكان القريبين من هذا المبنى، فإن قوة الرياح دفعت الناس إلى دخول منازلهم أثناء سقوط هذا المبنى؛ لذا لم يكن هناك أيّ ضحايا بالرغم من أن المبنى يشرف على طريق لا يخلو من المارة.

وتكتظ المدينة بالمباني والعقارات والمنازل التي تهدد وضعيتها حياة السكان، سواء التاريخية أو المباني الحديثة، حيث ظلت العوامل الزمنية تنخر في جدرانها لتظهر عليها الشروخ والانتفاخات، وتشقق دهان الجدران، ما جعلها آيلة للسقوط أو بحاجة لإعادة ترميمها.

الخبير الهندسي عبدالرحمن شالف، يشرح أنّ هناك العديد من المؤشرات التي تظهر على المباني الحجرية والطينية القديمة والتي تنذر بسقوطها، منها ظهور تشققات في الجدران، وضعف الأسقف وظهور تآكل في الخشب، وانحناء الأعمدة والجدران.

إضافة إلى تساقط الطوب والحجر من الجدران، وهبوط الأرضية وظهور تسرب المياه من الجدران والأسقف، إلى جانب وجود حشرات أو قوارض في المبنى.

ويتابع شالف حديثه: "إذا لاحظت أيًّا من هذه المؤشرات في مبنى قديم، فمن المهم إخلاء المبنى على الفور، ونقل السكان إلى مكان آمن، ثم استشارة مهندس مختص لتقييم حالة المبنى، وتحديد ما إذا كان من الآمن الاستمرار السكن فيه أم لا".

ويتطرق هذا الخبير الهندسي إلى آلية التعامل مع هذه المباني، سواء من قبل المواطنين أو الجهات المختصة، والمتمثلة في إجراء فحص دوري للمباني القديمة وتحديد المشاكل التي تعاني منها، والصيانة اللازمة للمباني القديمة لإصلاح الأضرار. إلى جانب هدم المباني القديمة التي لا يمكن إصلاحها، وإعادة بناء المباني القديمة بطريقة آمنة.

ويؤكد شالف إنّ انهيار مبنى قديم، قد يتسبب في أضرار كبيرة للمباني المجاورة، سواء كانت تاريخية أو حديثة، ومنها أن تؤدي إلى سقوط الجدران وتصدع الأسقف، وسقوط الأعمدة، ما ينتج عن ذلك وفيات وإصابات.

أحياء أثرية في خطر


يعد باب مشرف من أقدم أحياء محافظة الحديدة، وتوجد به العديد من المنازل القديمة المتهالكة، والتي يقدر عمر بنائها بنحو 200 عام، وقد بنيت من الياجور الذي يتخلله طين، تلك المنازل بعضها مهجورة وأخرى يسكنون فيها.

وباب مشرف هو اسم أحد الأبواب لسور مدينة قديمة، سميت بمدينة السور قديمًا، هو الباب الوحيد الذي ظل صامدًا إلى وقتنا الحاضر، ويعرف حاليًّا بقسم شرطة اللقية، إلى جانبه كان هناك أبواب أخرى وهي: باب النخل، باب الساحل، باب الفرحة، وباب النصر.

وتعتبر حارة "السور" من أكثر الأماكن الأثرية في مدينة الحديدة المهددة مبانيها بالانهيار والسقوط، إذ تقول رنا سالم وهي من سكان هذه المنطقة، إن هناك الكثير من المنازل مهددة بالسقوط بالكامل، بعضها تشهد انهيارات مستمرة لأجزاء منها، وأخرى قد هبطت أرضيتها، فتجد شبابيك الأدوار السفلية هابطة بشكل لافت، وكذلك الأبواب.

تضيف أن أغلب المنازل المهجورة هي ملك للأوقاف، فضلًا عن أن الكثير من سكان الحي والذين يملكون منازل قديمة قاموا بهدمها وبنائها من جديد، وبعضهم قام بترميمها، وهناك من عجز عن هدمها أو ترميمها، ويعيشون بها رغم خطورتها واحتمالية سقوطها.

وتوجد في حارة "السور" عشرات من المنازل القديمة والتي تعود لمئات السنين، وقد أخذت طرازًا معماريًّا قديمًا. تلك المباني، منها ما تعود ملكيتها لمواطنين، وأخرى مبانٍ وعقارات تابعة للدولة، في حين يصر البعض على الاستمرار والسكن فيها بالرغم من وضعيتها الخطيرة.

الباحث المتخصص في الآثار والتاريخ يوسف جابر الأهدل، يتحدث عن تاريخ حارة "السور" ومنازلها القديمة المهددة بالانهيار والطمس، إذ يؤكد أنّها من أهم وأقدم المناطق الأثرية في محافظة الحديدة، وأن بعض المؤرخين يشير إلى أنّها بنيت قبل ما يقارب 400 سنة، لكنها أقدم من ذلك بكثير؛ لأنّها شيدت على أنقاض مدينة كانت قائمة لتحل محلها والتي دمرها البحر.

يضيف الأهدل أنّ مبانيها بُنيت بطريقة معمارية فريدة ومتميزة، بحيث كانت الأساسات من نفس بيئة المنطقة المتمثلة بالشُّعب المرجانية، إضافة إلى الياجور وهو الطين المجفف بأشعة الشمس، بينما سقوفها معدة من جذوع أشجار محلية، إذ أنّ هذه المباني قد يصل ارتفاعها إلى خمسة طوابق وبعضها أكثر، وهي المنطقة الوحيدة التي تم البناء فيها بمثل هذا الارتفاع.

هذه المنطقة الأثرية والتجارية تعرضت أوضاعها للتدهور بشكل كبير؛ بسبب مجموعة من العوامل التي يعددها الأهدل، أهمها: تسرب مياه الأمطار من أسطحها، والتي تقضي على أخشاب السقوف، وخاصة أن المنطقة رطبة، لأنّها مجاورة للبحر، إضافة إلى أن بعض المباني هجرها أصحابها، وتهالكت مبانٍ أخرى لعدم خضوعها للترميمات؛ نظرًا لارتفاع أسعار مواد البناء التقليدية، وعدم قدرة المواطنين على توفير تكاليف ترميمها، في ظل تقاعس الدولة المعنية بالحفاظ عليها.

ضحايا سقوط المنازل

ترصد "خيوط"، العديد من الحالات والوقائع في هذا الإطار؛ منها حادثة انهيار جدار الدور الثاني من أحد المباني القديمة في شارع صنعاء (وسط مدينة الحديدة) قبل فترة وجيزة من العام الحالي 2023، ما أدّى إلى وفاة شخصين وإصابة ثلاثة آخرين، وتهشم وتضرر عدد من السيارات بجانب المنزل، إضافة إلى خسائر لحقت بالباعة الذين يفترشون رصيف الشارع المجاور للمبنى ببسطاتهم.

توضح عبير أحمد (اسم مستعار)، وهي تسكن في نفس هذا الشارع، أنّ المبنى قديم وعمره أكثر من 60 سنة، ملك لامرأة تعيش خارج المدينة، وقد وكلت شخصًا يديره عندما كان الطابق العلوي مكان استراحة، وبعد أن بدأ يتشقق تم تركه وإغلاقه.

وتضيف بالقول: "سقط المبنى فجأة، مات طفل عمره 9 سنوات، اسمه أحمد الحرازي، كان يملك "عربية" يبيع فيها سجائر وحلويات بجوار المبنى، وتوفِّي والده الذي كان يقف بجانبه، كما توفي شخص آخر عشريني، اسمه سلطان حمود القطاع، والذي كان بجوار سيارته نوع (هايلوكس)، التي كانت مركونة بجوار المنزل، ويعمل عليها في بيع الفواكه والخضروات.

الجدير بالذكر أنّ الحرب التي وصلت نيرانها محافظة الحديدة، تسبّبت في تهدم العديد من المباني الأثرية كتلك التي سقطت في حي سوق الهنود بمديرية الحوك، عندما استهدف طيران التحالف سوق الحي قبل نحو 4 سنوات.

"خيوط".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى