التطبيع في المسار الذي يجعل الرياض تبتسم

> علي الصراف:

> ​الإسرائيليون، منذ وقت طويل، يحشرون أنفسهم في مناسبات ومصادفات قد تحدث في الممرات أو في الكواليس، من أجل أن يظهروا في "الصورة" مع مسؤولين عرب، ليعتبروا ذلك تطبيعا واعترافا. تحوّل الأمر إلى منهج، وصارت له آثار نفسية. حتى لكأن المسؤول الإسرائيلي لا يشعر بوجوده ما لم يتصادف مع مسؤول عربي فيقول له "مرخبا".

هذا الواقع الكاريكاتوري صار نافعا. فعدا عن أن للدول العربية أجندات ومصالح، فقد ثبت أن "الحشرية" الإسرائيلية ليست على ذلك الضرر الذي كانت تفترضه أيديولوجيات "الصمود والتصدي".

تلك الأيديولوجيات لم تحرر شبرا. خسرت هي نفسها من أشبارها الخاصة، ولم تحررها. ولا داعي لتذكير حافظ الأسد بأنه خسر الجولان. لأنه مات. وسيموت الأسد الآخر، وما بقي من فصيلته، وكل نمور الغابة، والجولان سوف يبقى محتلا. "الممانعة" التي ورثت "الصمود والتصدي” خفّضت السقف. وتركت لقط الخداع والمراوغة في لبنان أن يجرب حظه بالزئير على اعتبار أنه “مقاومة".

"حق إسرائيل بالوجود" لم يعد شأنا تقرره الدول العربية منذ أن تولت منظمة التحرير الفلسطينية، بطلب منها، صدارة المعركة، عندما كسبت الاعتراف بها كـ"ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني" في القمة العربية التي انعقدت في الرباط في أكتوبر 1974. صار ذلك الحق مرتبطا “بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والاستقلال الوطني، والاعتراف بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية”، حسب نص بيان تلك القمة.

منذ ذلك الوقت، انقلب الصراع من “عربي – إسرائيلي” إلى “فلسطيني – إسرائيلي”، إلى جانب اعتراف ضمني بأن حرب أكتوبر 1973 هي آخر الحروب العربية ضد إسرائيل. ولكن، ليس لأن هناك “تفوقا” إسرائيليا مزعوما، بل لأن قوى العالم الكبرى، مجتمعة ومتفرقة، صنعت ذلك التفوق وأملته على الواقع. حتى أصبح النظر إلى إسرائيل على أنها “قاعدة عسكرية متقدمة” للغرب أمرا لا جدال فيه.

هذه “القاعدة” عجزت في الوقت نفسه أن تكافح التطلع الفلسطيني من أجل الحق في تقرير المصير. وهو ما عاد ليؤكد طبيعة الصراع الجديدة.

ماذا بقي من خلف ذلك؟

من قبل انهيار قوى “إعداد العدة للتحرير”، فقد شهدت المنطقة انقلاب هذه القوى على نفسها وعلى أمتها بالذات. سوريا ذهبت لتحرر لبنان. وذهب العراق ليحرر الكويت!

الدول العربية انتظرت نصف قرن قبل أن تشرع بالتطبيع. فعلت ذلك لأسباب أخرى أهم وأبقى.

كل ما بقي من خلف ذلك، هو اكتشاف أن وجودك نفسه، حقك في تقرير المصير، قدرتك على بناء منعتك الذاتية أمام عواصف المتغيرات الاقتصادية في العالم، بات هو العامل ذو الأولوية القصوى. هذا من قبل أن تتحول إيران إلى تهديد وجودي إضافي بعد احتلالها “أربع عواصم عربية”.

إسرائيل صارت تهديدا ثانويا. ليس لأنها فشلت في احتلال بيروت، كما تحتلها إيران الآن، بل لأنها ليست مشروعا مذهبيا يتغلغل في الداخل عن طريق “رجال دين” وميليشيات.

أسباب وجودية، على مستوى الاقتصاد والأمن والاستقرار الاجتماعي، صارت الاستجابة لها هي جواب السؤال الشكسبيري القديم: أن تكون أو لا تكون.

الإمارات لم تأخذ بمسار التطبيع مع إسرائيل لأجل التطبيع. أخذت بمسار إستراتيجي كان التطبيع مع إسرائيل فرعا ثانويا من فروعه، وقبضت ثمنه مسبقا، على مستوى المحافظة على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني على أرضه. منعت ضم الباقي من الضفة الغربية، وكسبت كل الباقي!

“تصفير المشاكل” كان هو المسار الذي جعل “كل الباقي” جوابا على متطلبات الوجود في عالم تعصف به المتغيرات؛ عالم يواجه معضلات كبرى، ليست إسرائيل فيها سوى تفصيل صغير.

خفضت السعودية إنتاجها من النفط. بلغ سعر برميل النفط 100 دولار أو تجاوزه، وبقيت واشنطن صامتة ولا تتبرم. بعض السر، أي بعضه، هو أن هناك محادثات تتعلق بشروط التطبيع مع إسرائيل، ما كانت واشنطن لتريد أن تفسدها. الـ100 دولار للبرميل، سوف تصبح هي القاعدة، وعلى العالم أن يتدبر أموره على هذا الأساس! واشنطن لا تتبرم من أجل عين إسرائيل. والرياض تبتسم!

هذا السعر حيوي ليس لمجرد أنه مبلغ من المال. إنه أداة لتغذية مشروع استثماري وتنموي عملاق يقوده ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. يمكنك أن تتحدث عن التطبيع إلى يوم يبعثون. ولك أن تدع القيل والقال يذهب إلى أين ما شاء أن يذهب. ولكن الرياض تعرف ما تريد. هذه القوة الإقليمية الكبرى تريد أن تكسب حقها في الوجود. حقها في تقرير المصير الإستراتيجي. وحقها في أن تبقى قوة قادرة على اختراق عواصف المتغيرات التي تعصف بعالم اليوم، بما فيها عاصفة “التغير المناخي”.

تريد السعودية اتفاقية دفاع مشترك أيضا، تُلزم الولايات المتحدة لا بأن تكون شريكا حسب المزاج، بل شريكا مسؤولا في مواجهة كل المخاطر التي تهدد أمن الخليج، وخاصة من جانب أولئك الذين يستخدمون الرعاع لكي يحتلوا “أربع عواصم عربية”.

الولايات المتحدة ليست هي القوة الأعظم في عالم اليوم فحسب. حسابات الصراعات الدولية الراهنة تؤكد أن تفوق هذه القوة سوف يظل قائما إلى أمد غير معلوم. واتخاذها حليفا في الدفاع المشترك يستند إلى هذه الحسابات بالذات.

وفي حين أن خيارات بناء مفاعلات نووية مفتوحة أمام الرياض، من الصين إلى فرنسا وبريطانيا، فإنها تريد أن تقدمها كجائزة للولايات المتحدة بالذات، في صفقة واحدة، تجعل الدفاع المشترك “متعدد المنافع”. تفعل ذلك، وهي تبتسم!

الكل له أغراضه بطبيعة الحال. ولكن، حيثما يبدو التطبيع وكأنه هو القضية، فإنه ليس “قضية” بالنسبة إلى الرياض. القضية هي المسار الإستراتيجي للجواب على أسئلة المستقبل وتحدياته الوجودية.

تريد السعودية تطبيعا مع الجميع. مع جماعة الحوثي أنفسهم في اليمن، وليس فقط مع إيران. مع تركيا، ومع لبنان المحتل الذي قررت أن تنأى بنفسها عنه وعن “حزب المقاومة” الذي يتاجر بالمخدرات ويزأر. وليس التطبيع مع إسرائيل في هذا السياق سوى تحصيل حاصل. فرع من فروع الشجرة، وليس الشجرة نفسها. وبمقدار ما يتعلق الأمر بـ”الصورة”، فإنها صورة تتجاوز الكواليس وتستطيع أن ترد على الـ”مرخبا” بأحسن منها.

العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى