"المرق" مشروب "جنّن" اليمنيين.. من رفيق للموائد إلى ضيف عليها

> عوض القيسي

> "على عرف المرق فُتّوا" "ليت البحر مرّاقي".. أمثال خلّدها المتمرقون
> كيف يُطبخ المرق وما أنواعه وما الفرق بين مرق القرية ومرق المدينة؟

> المرق رحيق اللحم، وحساء اليمن الأول، ومعشوق أهل الريف، الذي لا يباريه في قلوبهم حساء آخر، وهو المقدم قبل كل مائدة. مذاقه يداعب الحواس، ومطيبة منه، تُسكِن ثائرة الجوع، فتعدل المزاج وتُذهِب التعب، وتُعيِد النشاط.

ولا يتيسر المرق كل يوم في الريف، حيث تُربى الغنم، لكن يسهل الحصول عليه بثمن زهيد في المدن، حيث المطاعم التي تبيعه خاليًا من اللحم. ولقلة المرق، صارت أمنية توفره في الخيال الشعبي اليمني بحجم البحر، وصيغت الأمنية في عبارة جرت مجرى الأمثال، اختلفت روايتها بين المناطق اختلافًا طفيفًا، يتوافق مع تضاريسها، ففي أبين تروى: "ريت البحر مرق وامرُكبة عصيد".


ولا تتوافر المطاعم في القرى، والعرف السائد أن يطعم العمالَ صاحبُ العمل. والعمل الشاق كالبناء يحتاج إلى طعام ذي سعرات عالية، ويقدم صاحب العمل ذبيحة واحدة على الأقل، خلال مدة العمل؛ ليشد اللحم والمرق أزر العمال ويزيد حماسهم.

ولقد جرى ذكر المرق في مهاجل البناء لضرورته للعمال، إذ قال أحد البناة حاثا صاحب العمل على تقديم المرق:

الليلة الـمــرواح لـلــمـولــــى هـاتوا خـيوطـي با لطـويها

هو شِي مرق بالرفع امسوقة وإن كان ما شي بالوطِّيها

يُقدَم المرق في الولائم وفي البيوت قبل المائدة، ولا سيما في الريف، حيث تدور صياني المرق على المدعوين مرات عدة حتى يرتوون، إذ يغلب على الريفيين عشق المرق، ولا يلتذون بالطعام إن هم لم يتمرقوا. وفيهم غالبا ذواقو المرق الخبراء، الذين يستطيعون بذوق المرق معرفة نوع المرعى الذي رعته الغنم.

ويُشرب المرقُ غالبًا في مطايب من الخزف الصيني، ويمكن أن تكون من الزجاج، وأسوأ الأوعية اللدائن (البلاستيك) ثم الألومنيوم، فهذه الأوعية تكثر فيها الخدوش التي تُبقي أثارًا من نكهات ما سُكب فيها، فتمازج نكهة المرق، وقد تفسدها.

والمرق على خلاف كثير من الأطعمة، تظهر نكهته في بساطته، وكلما زادت المضافات الغذائية إلى المرق سرقت من نكهته اللذيذة. فنكهة اللحم الطيب هي أكثر لذاذة وإمتاعًا للحواس من الخضار وغيرها، لذلك يعشق ذواقو المرق ما كان خاليًا من الإضافات؛ ليتمتعوا، مع كل حُسوة، بنكهة اللحم الطري التي لا تعدلها نكهة في المطعومات الساخنة.

كان المرق في الأرياف يطبخ بسيطًا، يوضع اللحم وعليه ما يغمره من الماء، ثم يُغلى، ويُضاف عليه الملح والكمون. وفي بعض القرى النائية، ما كانوا يعرفون غير الملح إضافة إلى المرق، لكن مرقهم كان الأطيب نكهة، وكان يزيد من طيبها طبخها على حطب السمر، الذي تتطاير منه أبخرة تنفح المرق، فتنسجم معه، وتكسبه مذاقًا ونكهة طيبين، ويفوح القدر عند تقديمه بالريح الشهي، فتسابق أنوفُ العاشقين شفاههم إلى ارتشافه والاستمتاع به.

اليوم كَثُرت المضافات إلى المرق، ومنها الدقيق والبطاط والكوسة والجزر والبصل والثوم والطماط والفلفل والبسباس وأوراق الكزبرة وحباتها والقرفة وغيرها من البهار، وكل تلك الإضافات تفسد متعة تلقي نكهة المرق ومذاقه، فكل تلك الإضافات، لا تتناغم مع نكهة اللحم، بل تضعف الإحساس بنكهته، أما البسباس والفلفل مع المرق -على خلاف مذاقها مع الأطعمة الصلبة- فتخرش الحلق وأقصى اللسان وتعطي مذاقًا مزعجًا في مساغ الطعام.


ولعل أفضل الإضافات إلى المرق هي الكمّون والليم، فالكمون يتناغم كثيرًا مع اللحم، ويحسن مذاق المرق إن كان زهمًا أو زعرًا، وأما الليم فشقفة منه تكسب المرقة مذاقًا حامضًا خفيفًا ونكهة شهية، ويضاف الليم إلى المرق عند التقديم، وتَقوَى نكهة الليم عند إضافة القشرة بعد عصرها، إذ يحوي قشر الليم على الزيوت الطيارة التي تعطيه شذاه المميز، وإذا أراد الطاعم تعزيز نكهة الليم فيستحسن وضع بُشارة الليم (zest) في المرق، ويُستعمل لذلك مبشرة صغيرة (zester) خاصة به. وأحسن ما يكون الليم مُطيِّبًا للمرق عندما يكون بالغ الدسومة أو زهما، إذ يساعد الليم على إخفاء الزهمة وتعزيز نكهة اللحم.

هناك حقائق أخرى يحسن معرفتها لاختيار اللحم الألذ مرقًا، الأغنام التي تتربى على الكلأ في البراري والجبال أطيب لحمًا من تلك التي تعلف القصب أو النخالة والخبز المجفف، والذكور المخصية أطيب مرقًا ولحمًا من غير المخصيّة الكثيرة الزُهْمَة. وعند الذبح، ينبغي ألا يُغسل اللحم كما يفعل الجزارون في محالهم، بل يُنضح الماء قليلًا على مواضع الدم، ولا يتعداها إلى غيرها من لحم الذبيحة. ولا يبغي الجزارون من تغسيل الذبيحة نظافة، ولكن يريدون أن يتشبع نسيجها بالماء؛ ليزيد في وزن اللحم؛ فيزيد المكسب بالحرام. غسل اللحم بكثير من الماء يفقده نكهته اللذيذة.

ولا يقتصر الاستمتاع بالمرق على احتسائه، بل يستعمل مع الخبز لعمل الفتة. وفتة الخبز مع المرق تتنوع بتنوع الخبز، وبطريقة تحضيرها باردة أو ساخنة، والساخنة أثرى طعمًا، والباردة يكتفى بغمر قطع الخبز بالمرق، أما الطريقة الساخنة، فتسخن حرضة أو مدرة أو مقلى معدني ويحمص فتات الخبز في قليل من زيت أو سمن، ثم يسكب المرق ويحرك حتى ينشف معظمه. وكانت فتة المرق ملكة طعام العساكر، فكانوا حين يزيد معهم الكدم يصنعون منه فتة المرق.


وفي كثير من الثقافات الغذائية خارج اليمن يستعمل المرق عوضًا عن الماء ليضاف إلى الطبخات ليثري مذاقها، فيطبخ به الإدام أو الرز أو غيرهما.

وهناك قلة من الناس عندنا عرفوا المذاق اللذيذ الذي يكسبه المرق للرز، فيأكلون الرز بعد سكب المرق عليه، ولا شيء مثل المرق يسوغ الرز في الحلق، ويثري نكهته الفقيرة ومحتواه الغذائي.

ويستعمل المرق صِبغًا (خصار) للعصيدة، وهو أقل أنواع الغموس حظًا في تسويغ الطعام؛ لأنه يفتقد اللُزوجة التي تعطيه القدرة على الالتصاق باللقمة والبقاء عليها حتى تصل فم الطاعم؛ لذلك ظهر اختراع المرق الحامض في بعض مناطق اليمن مثل تعز، ليجعل المرق أثخن وأكثر لزوجة فتصل اللقمة محملة بالسواغ إلى فم الطاعم.

والمرق الحامض طبخة أكثر تركيبًا، فيقلى معها البصل والثوم ويضاف الدقيق عامل تثخين، والحلقة السوداء التي تعطي المرق حموضته وتضيف قوامًا ثخينًا ولونًا داكنًا، وقد تضاف بهارات تتعدد بتعدد الطابخين، وفي الختام يُصب المرق على هذه العناصر ويقلب حتى يتجانس ويصير جاهزًا.

تعددت مصادر المرق وتعددت طرقه، ويبقى محبوب الشعب الأول، لكنه بعد شدائد حرب التجويع التي تشنها الحكومة على الشعب، صار ضيفًا عزيزًا على موائد أكثر اليمنيين، ولا يحضر إلا لمامًا، ولكنه كثير الحضور على موائد الموسرين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى