ليس بالغريب علينا أبدًا أن نشهد اليوم أحداثا تمثل نسخة طبق الأصل من الأحداث التي جرت بالأمس القريب في وطننا الغالي الذي شهد عام 90م عند قيام الوحدة،تلك الأحداث كان لها الأثر السلبي على واقعنا وعلى حاضرنا ومستقبلنا، ومن ضمن تلك الأحداث هي قضية المحاصصة والمناصفة التي تصدرت المشهد الوحدوي و أوليناها بعد دخولنا الوحدة البائسة مع الشمال جل إهتمامنا... وباتت عملية المحاصصة وتقاسم المناصب التي دخلناها حينها مع الشماليين هي القضية المركزية وهي الوحيدة التي حرصنا على تطبيقها فقط تاركين خلف ظهورنا كل ما له صلة أو علاقة حينها بشأن مستقبل ومصير الجنوب ومستقبل ومصير موظفي الدولة بكافة قطاعاتها المدنية والعسكرية والأمنية، الذين تركناهم يواجهوا مصيرهم مع عصابات الشمال التي سارعت إلى رفع سيف ظلمها على رقاب كل الجنوبيين بعد ما تيقنوا من خلو الوثيقة الوحدوية التي وقع عليها الطرفين من أي ضمانات توفر الحماية لحقوق الجنوبيين من أي عبث قد تقدم عليه عصابة الشمال التي لم تتردد، ومنذ اليوم الأول للوحدة العمياء من النيل من حقوق المجتمع الجنوبي بكل فئاته وشرائحه الاجتماعية؛ التي كانت ضحية لعملية المناصفة والمحاصصة الشكلية التي قامت على الترضيات والمجاملات والحسابات الضيقة والخاطئة التي أرتدت على الجنوب وأبنائه وهيأت الفرصة للطرف الأخر الذي أستهدف ومنذ اليوم الأول للوحدة كسر إرادة الجنوبيين وتدمير كافة مؤسسسات ومقومات الدولة الجنوبية وتفتيت المؤسسة العسكرية والأمنية وتقطيع أوصالها والعبث بحقوق منتسبيها وتدمير البنيان العسكري والأمني الجنوبي وتدمير كافة الأمكانيات والقدرات التي كانت بحوزة المؤسسة العسكرية والأمنية الجنوبية وتحطيم روحها المعنوية والقتالية التي كانت تتسم بالفاعلية والقدرة العسكرية والأمنية التي كانت تتفوق فيها على الشماليين بمراحل كبيرة.
لقد تعمد الشماليون ومنذ اليوم الأول للوحدة العمياء على إغراق الجنوبيين في الأمور والقضايا التي تتعلق بمعيشتهم وبحقوقهم التي أهدرت بغية حرف بوصلة اهتمامهم عن القضايا الوطنية وقضايا الجاهزية العسكرية والأمنية التي تعرضت لضربات متلاحقة من قبل الشماليين حتى لا يتعرض مشروع احتلالهم للجنوب أي عقبات أو صعوبات كبيرة وخاصة من قبل الجيش والأمن الجنوبي المؤسستان اللتان تعرضتا فعلا لعملية تنويم مغنطيسي حتى يقتلوا فيها تلك الفعالية وتلك الروح المعنوية العالية التي تجسدت في سلوك وتصرفات المؤسسة العسكرية والأمنية الجنوبية التي كان يضرب بها المثل والتي تعرضت لعملية تشتيت وتفتيت ممنهج عن طريق توزيعها في مختلف شعاب ووديان اليمن ووضعها في مناطق محاطة بالقبائل اليمنية المسلحة التي تستطيع أن تفرض طوق على القوات الجنوبية وليس أدل على ذلك ما حصل مع اللواء الثالث مدرع في عمران الذي تعرض لعملية إبادة جماعية قبل انطلاق شرارة حرب احتلال الجنوب عام 94م.
لقد أدخلوا الجنوبيين منذ اليوم الأول للوحدة في دوامة البحث عن لقمة العيش ومتابعة علاوات السكن والترقيات وغيرها من المطالب التي أستثمرها وأستغلها نظام صنعاء بكل خسه بغية كسر إرادة الجنوبيين وإدخالهم في نفق المتابعات واللهث وراء حقوقهم المصادرة، بهدف شغلهم في أمور ما كان لها أن تحدث لو إن القيادة الجنوبية حينها أمتلكت رؤية متكاملة وشاملة تجاه مسألة التعامل مع كافة القضايا المصيرية والمرتبطة بحياة الناس وبمستقبلهم ومستقبل وطنهم قبل دخولهم الوحدة الذي وضعت الجنوبيين على كف عفريت وتحت رحمة الشماليين، الذين اتقنوا لعبة العبث بحقوق الجنوبيون وإدخالهم في نفق المتابعات التي لا تنقطع واللهث وراء الحصول على ما تبقى من حقوقهم المصادرة والمنهوبة التي أستغلها نظام صنعاء حينها لصالح إشغال الناس وإلهائهم عن القيام بواجباتهم تجاه وطنهم وتجاه وحدتهم التي تعرضت لشتى صنوف التشظي والتمزق الذي أراده نظام عفاش، حتى يسهل عليه ابتلاع الجنوب والسيطرة عليه بأقل الأثمان وهو ما حدث فعلا.
واذا كنا بالأمس قد سلمنا وطنًا ودولةً مقابل المناصفة أو المحاصصة، فإننا اليوم بتنا أكثر جهوزية واستعدادا وفي سباق مع الزمن حتى نكرر نفس سيناريو ما بعد الوحدة عام 90م حيث بتنا اليوم نتصارع على المناصفة والمحاصصة أكثر مما نتكلم عن مصير القضية الجنوبية التي لم تحظَ من جانبنا بنفس الاهتمام الذي تحظى به المناصفة والمحاصصة التي أضحت شغلنا الشاغل وباتت لا تبارح ألسنتنا أو وسائل إعلامنا التي تحولت وبقدرة قادر وبسرعة البرق إلى مجرد بوق رخيص تروج وبصورة مقززة لمعادلة المحاصصة والمناصفة ولذلك الاكتشاف العلمي الكبير الذي حملته لنا رياح اتفاق الرياض التي لن يجني من وراءها الجنوبيون إلا الويل والثبور وعظائم الأمور، ولن نحصد من وراء هذا الاختراع العظيم والباهر الذي دخل على حياتنا السياسية وعاث فيها فسادا والمسمى بالمحاصصة والمناصفة إلا المزيد من الكوارث التي سيدفع ثمنها الشعب الجنوبي الذي تاهت قضيته وسط هذه المعمعة التي يطلق عليها اصطلاحا المحاصصة والمناصفة ووسط عبث اللهث وراء السلطة التي تصب مآلاتها في صالح نظام الشرعية وفي صالح إعادة احتلال الجنوب مرة أخرى، بعد أن كان الجنوب أوشك بل أقترب كثيرا من قيام الدولة الجنوبية التي تراجعت حظوظها وبات قيامها اليوم في علم الغيب خصوصا بعدما اخترنا السير على طريق السلطة وطريق احتضان نظام الاحتلال مرة أخرى وأكتفينا بالمناصفة والمحاصصة كسبيل للوصول كما يعتقد بعض الواهمين لقيام الدولة الجنوبية، وفتح أبواب الجنوب على مصراعيها أمام عودة الاحتلال الى الجنوب دون قيد أو شرط .. فإذا كان احتلال الجنوب عام 94م قد تم عن طريق القوة العسكرية فإن احتلال الجنوب هذه المرة قد تم بطريقة ودية وبموافقة الجنوبيون أنفسهم بدعاوى وأسباب سياسية واهية لا تحمل أي قدر من الإتزان السياسي أو أي قدر من المسؤولية تجاه مثل تلك الخطوة التي أقدم عليها الجنوبيون والتي ستكلف الجنوب مستقبلا ثمنا غاليا، وستبقي القضية الجنوبية في محلك سر ولن تتحرك إلى الأمام قيد أنملة.
فكل الشواهد تشير بأن تمكين المحتل من الجنوب هو الخيار الأكثر مصداقية من مسألة تحريك ملف القضية الجنوبية، التي أغلقت في وجهها كافة الأبواب وسدت أمامها كافة المنافذ، وتجليات ذلك تتجسد في الهدنة العسكرية مع الحوثيين التي سيترتب عليها فرض أمر واقع في الشمال تحكمه مليشيات الحوثي وأخر في الجنوب تحكمه الشرعية وتحت راية الجمهورية اليمنية إلى أجل غير مسمى، خصوصا أن المجتمع الدولي مجمع على أستمرار الهدنة وتمديدها لفترة زمنية غير محددة وربما تطول لسنوات طويلة على غرار هدنة الكوريتين الشمالية والجنوبية التي لا تزال سارية المفعول حتى يومنا هذا ولا تزال الدولتان تعيشان في حالة حرب، لأن الهدنة لا تعني بالضرورة وقف الحرب بالمفهوم العسكري وبمفهوم الحرب.. وأمام هذا الوضع الجديد الذي تتصدره الهدنة العسكرية التي تقف خلفها وتدعمها الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي الذي يدعم ودون تحفظ فكرة تعميق الهدنة العسكرية في اليمن دون امتلاكه أي رؤية أو وجود أي مقاربة سياسية أو حتى تصور أولي لحل الأزمة اليمنية أو الخروج من مآزق الحرب، التي ستظل تتصدر المشهد السياسي اليمني لسنوات قادمة، مما يعني بأن مصير القضية الجنوبية ستدخل في المجهول وسيظل حلها يكتنفه الغموض والضبابية على الأقل في المدى المنظور.