أخر تحديث للموقع
اليوم - الساعة 02:57 ص بتوقيت مدينة عدن

مقالات الرأي

  • الأسرة "أمةٌ مصغرة" (3)

    إلهام محمد زارعي




    حين تتأمل في لوحة الحياة الكبرى، ستجد أن أولى ضربات الفرشاة تبدأ من البيت. من بين جدران بسيطة، يعلو صوت ضحكة طفل، وتهبط دعوة أم في جنح الليل، ويولد حلم صغير بالسلام لا يزال يتعثّر في خطاه. الأسرة ليست وحدة اجتماعية فحسب، بل هي الأمة المصغرة التي إذا صلحت، صلح بها الوطن، وإن آمنت بالسلام، غدا العالم كله مرآةً لسكينتها.

    في قلب هذه الأمة المصغّرة، تقف الأم — لا كظل خافت خلف الرجل، بل كنور ساطع يمهّد دروب الحياة. هي مربية الأجيال، حارسة الضمائر، وخبّازة القيم الأولى التي تنضج في أفران الحنان والوعي. كيف ترضى امرأة كهذه، وهي التي حملت ابنها في جوفها، وسهرت على بكائه، ورسمت ملامح طمأنينته، أن تُزجّ به في خنادق الموت؟ كيف تقبل، لو سُمِع صوتها، أن يُؤخذ زوجها من صدر العائلة إلى متاهات الفقد؟

    إن الأم التي وضعت ابنها بيديها على عتبة المدرسة، لا يمكن أن تضعه على عتبة الحرب. هي التي تحوك قميصه بدفء قلبها، لا بخيوط البارود. إن صوتها لو سُمِع، لكان السلام أقرب إلينا من حبل الوريد، لأنها لا تبني بيتًا لتراه يتهدّم، ولا تُرضع حلمًا لترى رصاصة تشطبه من الوجود.

    في وعيها الصامت، تفهم الأم أن السلام ليس قرارًا سياسيًا يُوقَّع، بل خُلق يُربّى منذ المهد، وقيمة تُغرس كل صباح مع قبلة على جبين طفل، ومع كلمة تسامح تُقال في حضرة خصام بسيط. لهذا، حين تتّسع رؤيتها، تراها لا ترضى بجنّة لا تضم أفراد أسرتها، ولا تطمئنّ إلى فردوس لا تسكنه أمهاتٌ مطمئنّات، وآباء عائدون من العمل لا من الجبهة.

    كل بيت مسالم هو لبنة في بناء مدينة فاضلة، وكل أم تُربّي على الحب لا على الحقد، تُغيّر مجرى أمة. حين تفهم كل أسرة أن سلامها الداخلي يُشكّل سلام المجتمع، تمتد جذور الطمأنينة، وتزهر أشجار الأمان في شوارعنا. وهكذا، لا تعود الحرب خيارًا مطروحًا، بل ذكرى من زمنٍ جاهل.

    والمرأة، بما وهبها الله من وعي فطري بالحنان والبناء، لا تقف في صفوف المتفرّجين. هي شريكة في التغيير، وبانية عالم جديد، لا تُقصى في مجالس القرار، لأنها تمسك بزمام التربية، وتزرع بذور الحوار في عقول الأطفال وقلوبهم. إن مشاركتها للرجل في صياغة مستقبلٍ سليم ليس تفضّلًا، بل ضرورة، لأنها ببساطة تمسك بيد النشء حين يتعثّر، وتعلّمه أن النصر الحقيقي ليس في غنائم المعركة، بل في انتصار الضمير على الكراهية.

    إن صرح السلام لن يُبنى بقرارات فوقية، بل بأساساتٍ راسخة من أمهاتٍ لا يقبلن أن يُهدَم ما بنينه بالحب والعناء. كل أسرة تسعى لأن تكون جنةً صغيرة، تُلهم المجتمع أن يصير جنةً كبرى. وكل صوت أم يُسمع، يقربنا من عالمٍ نغنّي فيه للحياة، لا ننوح فيه على فواجعها.

    ودمتم سالمين..

المزيد من مقالات (إلهام محمد زارعي)

  • Phone:+967-02-255170

    صحيفة الأيام , الخليج الأمامي
    كريتر/عدن , الجمهورية اليمنية

    Email: [email protected]

    ابق على اتصال