«الماسة» تجليات صوفية فاقت معانيها..قصيدة للشاعر عبدالرحمن السقاف

> «الأيام» علي محمد يحيى:

> لي وجهة ولي واجهات عديدة أبث انغلاقي على وردة وأطرح بوحي بماس الحروف تكونني رعدة لا تقف ولكن برغمي تفوح الصلاة *** ما بحر هذا النزيف سوى شهقة في ضلوع الوتر..أنا برق هذا الأرق أضج على ضلع كل انتكاس فيبقي على عرق في السنين نشيدي مضاء

الماسات هي أحجار كريمة نادرة، ومفردها ماسة، وشكلت هذه الماسات جزئية مهمة في تاريخ الإنسانية، تمثلت في وقائع حب عنيفة، كما هو الحال في معارك وحروب في شتى بقاع الارض، كانت في كل منها سببها (ماسة) واحدة. فعرفت الانسانية على مدى تاريخها قصصاً وأساطير فاقت قدرتها على تصور أحداثها بين رومانسية وكراهية وحب وخداع فوشايات وصلت بعضها حد الحروب. وبعض منها سجل التاريخ أحداثها وأساطيرها في قصص حب ومجد وشهرة خلدها التاريخ.

وفي العصر الحديث تذكر لنا وقائع أشهر أربع «ماسات» هذا العصر. أولاها هي «كوهينور» التي تعني جبل النور بلغة أهل فارس والهند وهي كلمة نصفها الثاني عربي. وهي ماسة هندية مشهورة في التاريخ أدت محاولة اقتفائها إلى ارتكاب جرائم كثيرة حتى جاء عام 1849م حينها دخلت في ملكية البريطانيين فأعيد قطعها وصقلها وضُمت إلى جواهر التاج البريطاني. والماسة الثانية هي ما كانت تعرف باسم «الغول الأعظم»، وقد ضاعت ولم يعثر على أي أثر لها كما لا يعرف عنها اليوم إلا من كتابات وأوصاف الرحالة الفرنسي «جان نافرينين». والماسة الثالثة هي «اورلوف» وقد أهديت إلى قيصرة روسيا «كاترين الثانية». وأما الرابعة فقد كانت «كولينيان» وهي من ماسات جنوب إفريقيا، أهديت إلى «الملك ادوارد السابع»، وهي جوهرة ضخمة قطعت منها مائة وخمس ماسات.. منها اثنتان عدتا زمناً طويلاً أكبر ماسات العالم.

ومعلوم أن ماسة الزينة هي جوهرة الجواهر باعتبارها مادة وعنصراً استغلت للزينة والتباهي بالعظمة، ظلت ومازالت أمنية في النفوس عند الناس بمختلف طبقاتهم، ويقال جوهر الشيء خلاصته. والجوهر في الفلسفة هو ما يقوم بذاته ولا يفتقر إلى غيره ليقوم بذاته بخلاف (العرض) الذي يفتقر إلى غيره ليقوم بذاته، ويطلق الجوهر على الجسم والهيولي والصورة والنفس والعقل.. لذلك فالجسم جوهر بحد ذاته باعتباره جوهراً ثابتاً، واللون أو المظهر أو الشكل عرض لا يمكن أن يقام إلا بالجسم. ويعني ذلك أن الجسم جوهر ثابت واللون أو الشكل أو المظهر عرض متغير، وإن كان المجرد يتعلق بغير المجرد كتعلق الروح بالبدن. والجوهر منه البسيط كالعناصر مثل «الماسة» العادية الملموسة ومنه ما هو محسوس في الأنظار.. كالأجسام التي تتمثل ماهيتها العقلية تمثلاً حسياً في مختلف الكائنات في عوالم الحيوان والنبات والجماد. وعند علماء الكلام من المسلمين فإنهم يستعملون الجوهر - الفرد- للدلالة على الجوهر البسيط، وهو الجزء الذي لا يتجزأ ومن ذلك يذهبون إلى أن العالم مؤلف من جواهر - فَرِدَه - بعضها ذرات روحية، وبعضها الآخر ذرات مادية.

والعود أحمد على ماسة المقال .. ماسة الأديب الأستاذ عبدالرحمن السقاف ليست الماسة الصلدة الخرساء ذات البريق والرونق، بل هي ماسة تضج بالروح وتبوح أحرفها المضيئة ببريق الوجدان. القصيدة الماسة حقاً والموسومة بـ «ماسة» أيضاً كانت قد نشرت في دوحتنا «الأيام» في صحفة (الأدب الجديد) قبل ما يقرب من العام، بعد أن ولج إلى عالم الصوفية، وهي أحدث مراحل تجاربه الشعرية كما أزعم والتي مازال يعيشها حتى اللحظة.

فهذا النص الذي أوردته فاتحة للمقال والذي فاضت به روح السقاف إنما هو ضرب من الوجد الصوفي تجلت فيها ملامحه في مضمونه، وإن كانت سبقتها تجليات كانت فارقة أيضاً في قصائد سبقت. ففي هذا النص بث ومناجاة وصلاة سكبها في قوالب من الجمل الشعرية لتنضح بصوفية متفردة جديدة الملمح، عذبة صادقة تلتهب حروفها الحكمية وعباراتها التي يشعر ويحس من خلالها بالحقيقة غير المحدودة التي لا يمكن للعقل المحدود أن يستجليها او أن ينفذ إلى كنهها إلا إذا كان صاحبه - صاحب العقل -صوفياً. العنوان والقصيدة كلاهما يحمل تدفقات غير متناهية في المعنى الواحد، والماسة ككلمة شرحها عند الصوفية أنها من كلمات الحكمة التي تصدر من أفواه البشر الكُمّل، وفي المعنى عندهم أيضاً هو البحث في قلب الإنسان الذي يتلقى الفيض النوراني، ويقرب بإدراكه من المعرفة.. لأن الله غايته معرفة.. فهو القائل عز وجل {علم الإنسان ما لم يعلم} بعد أن ألزمه القراءة باسمه لقوله تعالى {اقرأ باسم ربك الذي خلق}.

إن من يقرأ أو يستعيد قراءة هذا النص الصوفي فإنه يتطب منه أن يعيش هذه السائحة الشعرية التي سبق أن عاشها شاعرنا الأستاذ السقاف وأن يغوص في مكنونات المعاني المخبوءة في حنايا القصيدة.. فهي تستميلنا كما أتصور إلى آفاق معانيها وإلى أناقة ألفاظها، وبما يكتنفها من رؤى في مخيلة شاعرنا، وفي تجريد تجمعت فيه صراحة الكلمات بما يحفزنا أن نفرك قرائح أفكارنا لنتذوق ما فيها من كم في المعاني. غير أن الشاعر قد نجده يذهب بالمقاصد مذاهب شتى توافق الجوانب التي يميل إليها أو يعبر عنها.. ولكنه لا يترجمها صراحة حتى لا تفقد خاصيتها أو خصوصيتها، فلا حرج بعد ذلك أن تكون أفكارنا قد تقاربت معه أو تباعدت.

والنص مبني على الدهشة لقوله:

«ما بحر هذا النزيف .. سوى شهقة في ضلوع الوتر» فقد أدهشه أن يكون له مكان في عالم يفيض بالنور ويعج بالحركة -البحر- وأدهشه أن يحس نبض الخليقة في نبض قلبه، أما الوتر فهو رمز لحالة الذروة التي يصل إليها الصوفي. يكمل الشاعر:

أنا برق هذا الأرق

أضج على ضلع كل انتكاس

فيبقي على عرق في السنين

نشيدي مضاء

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى