القبيطة.. مشاهد مؤلمة لمأساة الجفاف

> «الأيام» انيس منصور حميدة:

>
امرأة تقطع مئات الأميال لتحصل على القليل من الماء يوميا
امرأة تقطع مئات الأميال لتحصل على القليل من الماء يوميا
آلو ..آلو ..«الأيام» القبيطة نرجوكم .. الجفاف شحة المياه ما بقي إلا «الأيام» تنقل حالنا وتشرح مأساتنا .. على إثر هذه الاتصالات تم الانطلاق صباحاً برحلة وسط الجبال بين التلال والصخور العملاقة يسبقني الفضول الإعلامي، وبعد ثلاث ساعات وجدنا مناطق لا تشبه مناطق اليمن القريبة ولا البعيدة، غبراء قاحلة كجبالها الراسيات.. وأناساً بسطاء ترى مصيبتهم من تقاسيم الوجوه وبعثرة ثيابهم، انقسموا فريقين فريق غادر البلاد يبحث عن حياة إنسانية هرباً من جفاف المياه وجفوة النظام وجعجعة المفسدين، وفريق سلموا حياتهم للقدر قاعدين شعارهم «بلادي وإن جارت علي عزيزة» يعيشون حالاً أشبه بالجنون يبحثون عن صحافة تكشف آلامهم وصرخاتهم إلى العالم ..وكفى!

< عشرات النساء المسنات بين رائحة وغادية، أطفال في عمر الزهور تركوا مدارسهم ولعبهم وامتطوا صهوة الحمير إلى موت شبه محقق طلباً لشربة ماء .. ليسوا إلا براءة الطفولة اغتالتها أيادي الغدر من المدرسة إلى غيابات الآبار في مديرية يسكنها مائة ألف ويزيدون والعهدة على آخر تعداد سمعناه .. القبيطة مصائبها كثيرة متشابكة ملغومة متنوعة كتنوع الدراما الهندية، لذاذة الحلوى شهرتها، ومرارة الجفاف جندلها، وحسبنا في الاستطلاع أن نبتسم عكسياً مع (دبة) الماء التي قصمت ظهر كل قباطي ابتداء باليوسفين والهجر وانتهاء بكرش والقبيطة، هذه العزل الاربع اسم لأربعين مسمى في مقياس النظارات السمراء .. انين وصيحات «وا جفافاه وا عطشاه وا مسؤولاه وا حكومتاه» وفي القبيطة العزلة ليس المديرية قضت «الأيام» سبع ساعات بالتمام على مراكز: ثواجان، الرماء، الحنكة شرار، السعادنة والربوع، لان جفاف الماء كان أشد وأنكى فيها .. محطتنا الاولى ثوجان وندع الحديث للشيخ حاميم ناجي مقبل الذي قال: «اكبر محنة نتجرع ضراوتها جعلتنا نعيش حالة طوارئ واستنفار محنة طلب الماء، ولدينا بئر واحدة فقط تتعاقب عليها أسر ويتم التقاسم لكل أسرة خمس (دباب) سعة 20 لترا كل ثلاثة أيام، وسبع آبار أخرى نزفت تماماً، واحياناً تقطع النساء مسافة 8 كيلومترات مشياً على الاقدام في الأيام المشمسة والليالي المظلمة إلى مخزن مياه عنفات، والذين ظروفهم متيسرة يشترون دبة 20 لتر بمبلغ مئة ريال .. هذه حياتنا وكفى». بهذه الالفاظ والجمل تجلت قواصم الفاجعة وفداحة الوضع .. ترددت واحترت كثيراً ورأيت رأي العين ما تم ذكره، ثم خرجنا من ثوجان وضميري الصحفي يردد «ثوجان بحاجة الى عمل مضن واستقرار معيشي وفريق محترف يسهر على رعايتها» .. نتركها وعذاباتها قليلاً لتستريح وباي باي ثوجان.

نمشي قليلاً بين جبلين صعوداً ثم هبوطاً وصولاً إلى الرما بعد مغامرة أشبه بأفلام الكرتون ظننت خلالها أننا في كوكب فلكي خصوصا عندما اتجه النظر نحو قرى متعالقة متماسكة على صخور غريبة .. ياه ..عالم عجيب وشعاب منحدرة ارتكازيا مكسوة بشجر العرعر.

< أثناء هذا التأملات التقينا فؤاد سعيد ناصر، موجه تربوي، فقال: هذه المنازل كلها مهجورة، وتلك آبار للماء جفت، وهناك حاجز لمياه الامطار نشرب منه مياهاً ملوثة غير صالحة للاستخدام الآدمي سببت أمراض البلهارسيا والمسالك البولية. المواطنون باعوا الابقار والاغنام فليس هناك ماء .. وضعنا مُزرٍ ويرثى له». وظل يعدد مآسي كثيرة حتى قلت يا ليته يصمت، وتدخل طفل في العاشرة من عمره: انظر الى الكبة هذا منزل مدير المديرية السابق، وأسفله قليلا منزلان لأمين عام المجلس المحلي بالمديرية ومدير معهد المعلمين الهجر كلهم سافروا لانه لا يوجد ماء.

صابر محمد عبدالجليل ضحية البحث عن الماء
صابر محمد عبدالجليل ضحية البحث عن الماء
وفي الحنكة وجدنا جموع الساكنين في حالة يرثى لها .. طوابير من العجائز يتسلقن تلة طويلة عليها خزان مياه تسمى السقاية.

< وحدثتني الحجة نعمة هزاع سالم: يا ولدي (نسأب) الماء من رأس الجبل الى هذه البيوت .. شحة الماء خلقت لنا مصائب لا تحمد عقباها ولم يعهدها مجتمعنا من قبل أبدا.

< وعقب عليها الاستاذ منير عبدالقوي: ما ذكرته الحجة اكيد، مأساتنا تلين لها القلوب والوضع مزر لقلة الامطار، حتى مسألة التعاون بين الناس لحفر بئر وخزان اراضي اصبحت مستحيلة ونادرة.

بهذا المشهد لمسنا ابناء الحنكة يبكون مجد الألى دوما مع غروب كل شمس .. عزاؤنا لبؤس حالهم بعد ان كدر صفو عيشهم ثلة من عديمي الضمير تسري الوحشية في دمائهم وينمو عفن الظلم في آبارهم وسقاياتهم كما ينمو عش الغراب يسقونهم مصل البؤس والحرمان ويتسابقون على أصواتهم الانتخابية أيام الموسم فقط.

تسير بنا السيارة 6 كيلومترات بطريق ملتوية كالثعبان أشد ضيقاً ووعورة تشكو ويلات ورضات الحاضر لنصل شرار، وما أدراك ما شرار، فالشراريون راحلون من المجد إلى الوجد ومن الآمال الى الآلام، أغنياء من التعفف، فقراء تحت الاسقف، ترتعد الارض تحت اقدامهم تعبا، وضجرا يرقبون المجيء السلطوي الحكومي الذي لم يجئ ولن يجيء في زمن ادعت فيه البراغيث الطيران بريش مستعار.. شراريون ينتظرون المواطنة المتساوية ومجيء حلم مازال رهين حرب البطون وسياسة الافقار.. هذا الحلم يبدأ بعنوان «مشروع مياه إسعافي» وينتهي بمشاريع خرافية تحكيها سلطة الف ليلة وليلة.

< عجوز في السبعين من عمرها اسمها ألوف عبدالواسع طالب استقبلتنا بوجه متجعد وصوت شاحب، تحمل (دبة) ماء، سألتها عن الحال ومن اين أتت؟ فاعتذرت: ما استطيع الكلام قدك تشوف الخبر امامك عادك تريد خبابير، قلوبنا تورمت من الشكاوى والكلام الذي لا ينفع خلاص خلاص خلي لي حالي من شسمعنا.

حاولت الاقتراب من جمهرة طارئة لنسوة اسفل شرار رفضن وهربن بعيدا عن كاميرا التصوير كأنهن يهربن من قبو يحترق، وتركنا (دبات) الماء وطوابير الحمير حتى نمضي في طريقنا، وتهلل الوالد مقبل عباد قائلا «يلعن أبوها حياة وسياس»ة وبعد معرفة السبب لمقصدنا اعتذر لنا وتأسف قائلا «حسبت أنكم من الدولة، قربت الانتخابات وكثرت الزيارات .. نريد ماء .. نريد ماء .. هكذا سجل في «الأيام» يا بني وعفوا عفوا على السب واللعن».

< المدرسون يسلم سليم وعبدالكريم طالب وعبدالحافظ علي سعيد اجملوا معاناتهم وحالهم في روشتات تحمل مقصدا واحدا «نحن لا نطلب الماء من الغير لأنه بيد الله، لكن نريد من الجهات الحكومية تلمس أوضاعنا وبناء السدود لحجز مياه الامطار» فيما طالب الاستاذ ياسين عبدالوهاب السلطة المحلية بوضع حلول سريعة جدا تعيد للناس الأمل بان الدنيا مازالت بخير وأن اليوم أحسن من الامس ومن الحلول السريعة توفير بوزة اسعافية لأن قطرة الماء تعني الحياة.

هذه بعض آهاتهم وأناتهم سطروها يبحثون عن حقوق المواطنة وشربة ماء نقية، ولم يبق لهم سوى مناشدة رئاسة الجمهورية - بعد أن أوصدت امامهم كل الابواب الحكومية - ومناشدة اهل الخير والبر والاحسان للنظر بعين العطف والحنان.

يصورة الطفل ذي العاشرة من عمره ليس من حيفا ورام الله، ليس من هورشيما وناجازاكي.. رجلاه مكسورتان لماذا وما اسمه وكيف انكسرت قدماه؟ نترك الحديث له ليجيب عن الاسئلة «انا صابر محمد عبدالجليل من شرار قبيطة، خرجت في إحدى ليالي رمضان الماضي بعد ان انقعطت بي سبل الحصول على (دبتين) ماء.. امتطيت الحمار كي (أسأب) الماء من مكان بعيد، وفي الطريق سقطت من على الحمار الى الارض وانكسرت قدماي واسعفت الى المستشفى ولازلت اتناول العلاج وأمشي بعكازين حتى الساعة». حدثني بصوت متقطع وبصعوبة وعلى استحياء .. وبهذا المشهد المؤلم ودعنا قلوبا وأرواحاً تلتهب حزنا .. ويغمرني تساؤل عما قدمته دولة الثاني والعشرين من مايو لإيقاف هذه الجروح النازفة؟ هؤلاء مكلومون لم يجدوا طعم الإنسانية يتم التعامل معهم كمواطنين من الدرجة العشرين، ومن يعش مشاهد الألم يجزم يقينا ان دولتنا غائبة تماما على أصح تعبير.

احد طلاب مدرسة الرماء ترك المدرسة ليبحث عن الماء
احد طلاب مدرسة الرماء ترك المدرسة ليبحث عن الماء
< الاخ عضو المجلس المحلي الاستاذ الجيولوجي علي الجمهوري شاركنا الحديث عن مصيبة الجفاف في القبيطة، بقوله:

الحقيقة ما يصيب مناطق القبيطة من جفاف أمر يتكرر سنويا خصوصا في هذه الشهور، ويخوض الناس معركة الحياة مع الماء وتلعب ايضا الخريطة السكانية وازديادها دوراً في استهلاك كمية المياه، وتعد العوامل الجيولوجية عاملا مهما في قلة المياه وندرتها منها على سبيل المثال بنية الجبال المتصحرة، يعني أنها غير خازنة لكمية الامطار النازلة ناهيك عن عشوائية الحفر وإهمال التخطيط، ومما يجدر الاشارة إليه اني قدمت دراسات جيولوجية وحلولا مقترحة للتخفيف من الجفاف الى السلطة المحلية بالمحافظة لكن هذه الدراسات والحلول قوبلت بالاهمال واللا مبالاة وذهبت ادراج الرياح، وهو أمر يؤسف له كثيرا، وعبر صحيفة «الأيام» الغراء اوجه صوتي لهيئة مياه الريف ومحافظ لحج الوقوف بجدية والنظر بعين المسؤولية لتفادي شحة المياه قبل ان تحل الكارثة ويقال كانت هنا مديرية القبيطة، لأن الناس يهاجرون يوما بعد يوم .. قرى باكملها اصبحت فارغة بسبب نزوح ساكنيها للبحث عن الماء لأنه اساس الحياة كما قال تعالى {وجعلنا من الماء كل شيء حي}. شحة المياه هددت الثروة الحيوانية وهددت تعليم الفتاة، أصبحت الفتيات مشغولات بالحصول على الماء حتى طلاب المدارس امتنعوا عن الدراسة من اجل الماء، وانتشرت أمراض وأوبئة خبيثة لعدم وجود المياه الصالحة للاستخدام الآدمي، ومن النساء من تتعرض للاجهاض اثناء قطع المسافات على الاقدام وطول الانتظار، بل وصل الأمر لحد أنه يتم التسابق على الماء من الساعة الثالثة فجرا كما هو حاصل في منطقة شرار والسعادنة .. مرة اخرى اقول لا نستطيع عد مصائب الجفاف ولكنها كارثة تبحث عمن يتفاداها».

واخيرا تساقطت دموع الوداع وألم الفراق مع كلمة لها ضخامة وفخامة وجرس طيب مع ايقاع جميل في فؤاد كل قباطي إنها كلمة «ماء» ويعتذر قلمي السيال عن ذكر احاديث وقصص تواترت تواترا غريبا تدعو الى الدهشة بل بحاجة الى مجلدات ومحبرة، مقدمة المجلدات عنوانها «رحلة الجفاف» ناهيكم عن الدروس العظيمة التي تعلمها ناقل السطور آنفا أجلّها درس التوبة عن مشاهدة الفضائية اليمنية والبهرجة في اعلانات مناقصات الصحف الرسمية..ابتسم أنت في القبيطة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى