قصة قصيرة بعنوان ("العمة زيــن")

> «الأيام» مختار مقطري:

> قتلوا العمة زين..!..الليلة، البارحة، لم ينم المجند جميل الصغير جيدا ، عاد من «عقان»الى المعسكر وهو يشعر بالقلق، لا يذكر أي طريق سلك.. طريق «الدامر» الذاهب الى «العند» قادما من «الشمال» أم طريق «المجنة» المختصر بين «عقان» وبين المعسكر الصغير المستور خلف جبل «اغنم زمانك».. كان الوجوم يلف عقان والهدوء المتوتر يخنق مساحاتها الضيقة.. حتى عبده الصبري صاحب المقهى الذي ازدحم فيه «الموالعة» كف عن الثرثرة والضحك وهو الذي لا يكف عن الثرثرة والضحك.

لم يغادر الخيمة حتى بعد سماعه المجند القديم احمد الدقمي يقول: «لن يدفنوها بعد صلاة العشاء».

بعد صلاة العشاء تبدو «عقان» مجهدة وهي تغالب نعاسها، فلا تنام الا بعد انتحار الساعة العاشرة، بعد ان تودع آخر «الموالعة» الذين يغزون منذ العصر مقاهيها ودكاكينا البائسة، وحين يطمئن المجند جميل الصغير الى السكون في شارعها الترابي الطويل يغادر مقهى عبده الصبري، يقف بالقرب من «صندقة» خشبية مغلقة دائما ويتظاهر بأنه «ينجع» كرة «القات» من فمه، ثم يتسلل خلسة الى زقاق مظلم.. العمة زين تترك له الباب مردودا، وفي كل مرة يدخل عليها يجدها راقدة في سريرها المصنوع من الحبال الجافة المشدودة بين اربع قوائم خشبية فقدت اتزانها. تنهض العمة زين وتقدم له فنجان «الشاهي الملبن»، فيقف تيسها الأحمر الفحل متوثبا ناظرا اليه بتوعد وكره شديد وكأنه يحتج على دخوله المفاجئ في ساعة متأخرة.

ثلاث إناث طليقات والفحل الأحمر مربوط بحبل ملفوف حول عنقه الى جذع «علب» هزيل يسند جدار «الحوش» - كما تسميه العمة زين - صفيح علب السمن الكبيرة وجذوع «العلب» الظامئة وسيقان الخوص التي يستوطنها الدود. عشرون عاما وهو يتداعى لكنه لم يسقط - هذا ما أقسمت عليه العمة زين.

وقال منصور الطباخ الذي يسرق من السمن وعلب الفاصوليا في اجازة الخميس: «كانت امرأة طيبة.. من قد يفكر في قتل العمة زين». في ظهيرة محرقة طرق الباب بقلم حبر سائل اخرجه من جيبه، لم ينتظر ردا حين وجد الباب مردودا.. بين غرفتها الضيقة وبين الحوش باب بلا مصراع، رأس عنزة هزيلة مدفون بين ركبتيها، ويداها تقبضان بقوة على قرنيها، جلس فوق صندوق خشبي قديم. كانت العنزة ترفع ذيلها، والتيس الأحمر الفحل يصدر أصواتا مهتاجة وقد استبد به الشبق. سألها وهو حائر في تحديد مشاعر العنزة في تلك اللحظة: «هل في الكوز ماء مبخر؟». لكنها لم ترد، ظلت تراقب التيس الأحمر الفحل وهو يعتلي للمرة الثانية ظهر أنثاه المستسلمة، وحين فارقها أسقطت فوق عينيه نظرة ذات مغزى، ارتبك المجند جميل الصغير فابتسمت، لكنه عجز عن الكلام وعن الوقوف وعن شرب الماء المبخر، ولأول مرة ينتبه الى ما في وجهها من بقايا جمال وفضلات صبا.

كان يوشك أن يغادر الخيمة حين سمع الرقيب ثابت الوهطي يقول بثقة: «قاتلها رجل دون شك».. ورغم صغر سنه علق المجند مروان الصبيحي قائلا: «ليس من الرجولة قتل أرملة عجوز فقيرة».. عاد الى مكانه وساقاه ترتعشان في حين غطى وجهه عرق مر، جلس فوق الصندوق الأسود فأطلق التيس الأحمر الفحل صرخة احتجاج، لكنها ظلت راقدة في السرير، ثم واجهته وهي تقول: «ها أنت تفشل مرة أخرى». فقال وهو يزرر قميصه: «القات والأعمال الشاقة في الحفر وبناء الخنادق»، فردت بأسى: «شاب وامرأة عجوز.. فلا تبحث عن عذر آخر»، فأجاب بارتباك: «لم تعودي هكذا في نظري.. فريحيني وكفي عن بيع الشاهي الملبن»، فردت بسرعة: «لعلك قادر على اعطائي مصروفي».. صفعها.. لكنها لم تبك ولم تصرخ.. تجمعت في فمه غصة فغادر بيتها مسرعا، وفي الظلام سمع انفاس شخص يراقبه من قريب، كان عليه أن يهرب، جرى مسرعا وهو يلهث عائدا الى المعسكر خلف جبل «اغنم زمانك».. دخل الخيمة.. لا يوجد احد فيها الآن.. شحن آليه الكلاشنكوف.. ثم «كشح» فوهته في داخل حلقه.. فانطلقت رصاصة.

ديسمبر 2005

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى