صَرِيرُ القَلَم.. (بعض ذكرياتي مع الأستاذ عبد الله فاضل فارع، في ذكرى رحيله الأولى)

> «الأيام» د. سالم عبد الرب السلفي:

> أسعدني الزمانُ بلحظات رائعة، وساعات نافعة، أمضيتُها في حضرة شيخي وأستاذي الراحل عبد الله فاضل فارع. وهي لحظات وساعات لم يَنَلْ بَرَكَتَها غيرُ عددٍ قليل من الناس، أَحْسَبُنِي أَحَدَهم.

لقد أدركتُ منذ الأيَّام الأولى للقائي بهذا الرجل العظيم - في سنة التمهيد بالماجستير 1996م- أنه شجرة عتيقة مليئة بالثمار، وارفةُ الظلال، أدركناها بأَخَرَةٍ من الزمان، وأنه لا بد لنا من أن نَطْعم بعضَ ثمارها، ونستظلَّ بوارف ظِلالها، فتقرَّبت إليه باهتمامي بمادَّته وتفوُّقي فيها، ثم اقتربت منه أكثر من كوني طالبًا، فبدأت أتردَّد عليه في منزله الكائن بخَوْر مَكْسر عصرَ كلِّ أربعاء، بعد أن رأيت رغبته في حضوري إلى منزله ومساعدته في إعادة ترتيب مكتبته الكبيرة التي تضمُّها كلُّ غرفِ الدور الأول وصالاتِه، وتنظيفِها من الأتربة التي عَلِقت بها طوال فترة غيابه عن اليمن.

وكان معنا شخص ثالث هو الأستاذ القاصُّ سعيد عبد الله، الذي كان يتردَّد عليه أكثر مني، وكان هو الرسولَ الأسبوعيَّ الذي يأتي له بكلِّ جديد في مكتبات عدن، لا سيَّما المجلات والجرائد. وكان الأستاذ عبد الله يطَّلع على ما يأتي به سعيد من الكتب والمجلات والجرائد يوم الخميس، واصلاً نهارَه بنهار الجمعة، لا ينام إلا بعد غداء الجمعة. وكان هذا ديدنه إلى آخر أيَّامه. وهو في هذا يَصْدُرُ من مبدأ عمليٍّ مفادُه أنَّ العمل الذي تبدأ به لا بدَّ أن تنهيه، وألا تظلَّ تتقفَّز من عمل لآخر دون أن تنجز واحدًا منها. وهي أحد المبادئ التي أوصاني بها في أيَّامه الأخيرة، بعد أن أحسست بها طوال تعاملي معه.

في رُبوع الرَّبوع

وشدَّ ما كنت أتلهَّف لهذا اليوم (الأربعاء)، فقد كنا نبدأ يومَنا هذا بشرب الشاي، ثم يعقبه مباشرة تنظيف المكتبة وترتيبُها غير آبهين بالتراب الذي يملأ أنوفنا ويوسِّخ ثيابنا، ذلك أنَّ رؤية كتاب كان بمثابة معرفة جديدة؛ لأنَّ الأستاذ عبد الله كان يمسك بهذا الكتاب برفق ويمسحه - بعد أن نمسحه - بخرقة في يده، وكأنه يغسل وليدًا بالماء الدافئ، يخشى عليه أن ينزلق من بين يديه، وهو في أثناء ذلك يقصُّ لنا قصَّة هذا الكتاب معه: كيف اشتراه، ومن أين، وبكم، وكيف قرأه، ومن استعاره منه، ولا بأس أن يعرِّج على مؤلفه فيعرِّفنا به، وربَّما تحدَّث عن الدار التي نشرته، وطبعاته، وكلِّ ما علق بذاكرته عن هذا الكتاب وما يتصل به.

ثم كنا نستريح قليلا لنتعشَّى سويَّة بأكلٍ من مخبازة مجاورة، فكان يعطي الفلوس لسعيد ليأتي لنا بسَمَك وحُلْبة وخبز رَطِب، وكان يلحُّ على سعيد بالإكثار من السمن، ويحذِّره من أن يغالطه العاملون في المخبازة. وطبعًا، لا يمضي الوقتُ في أثناء الأكل من دون معرفة؛ إذ تتوارد الذكريات في رأس شيخنا فيحكي لنا منها ما يتصل بمخبازات زمان ومطاعمه، ويقارن بينها وبين مطاعم اليوم، فلا يجد بدًّا من شتم الأخيرة، واتهام عامليها بالسرقة والتزييف، ولا سيَّما فيما يتعلَّق بموضوع السمن!

ثم بعد ذلك كنا نبقى قليلا في غرفته يدور بيننا حديث حُرٌّ يكون فيه كالمنهل ونحن كالماتحين، ثم تحين ساعة الرواح ونحن لا نريدها أن تحين.

غرفة تَضِجُّ بالحياة

ظلَّت غرفة الأستاذ عبد الله على ترتيبها منذ أن عرفته إلى وفاته. وهي غرفة متوسطة، تدخل بابها الموجود في اليسار، فيواجهك جانب الكَبَت الكبير وطاولة صغيرة يضع عليها الشاي وبعض المتعلقات سريعة الطلب، فإذا نظرت يمينا وجدت ثلاجة صغيرة توجد فوقها دائما أكواب مغطاة، فيها ماء للشرب، فالأستاذ عبد الله لم يكن يشرب الماء إلا دافئا، ولست أدري أهي عادة قديمة أم استحدثها مع كبر السن. وبجانب الثلاجة إلى أقصى اليمين يوجد مكتبه المرتب الذي لا يكاد يخلو من أدوات المكتبة من الأقلام والمماسح والمقاشط والخرامات والدباسات والمساطر والأوراق بأحجامها المختلفة، وغير ذلك.

وقد كان رحمه الله من عشاق القلم الرصاص، وأكثر ما تكون كتابتُه به، وعلى مكتبته أعداد وأنواع كثيرة منها. وهو إذا قرأ كتابًا علَّق عليه بالقلم الرصاص، وإذا ترجم ترجم بالقلم الرصاص، وقد أعطاني مرة بتواضع منه أن أنظر في ترجمة قام بها لكتاب يتحدث عن مأساة الأميرة ديانا ودودي الفايد، فوجدته كلَّه مكتوبًا بالقلم الرصاص. وأفسِّر تعامله مع القلم الرصاص بالتزامه بمبدأ الدِّقَّة، فإنه يوفر له التصحيح بمحو الخطأ وإثبات الصح.

وفي أقصى اليمين وخلف مكتبه توجد مجموعة كبيرة من الكتب والموسوعات والمعجمات وبعض الكتب الأثيرة لديه، التي يرجع إليها كثيرًا، أو يحن إليها عادة. إنها بالنسبة إليه كائنات حية تملأ عليه فراغ الغرفة والزمن. ويشغل سريره المساحة المتبقية من الجانب الأيمن من الغرفة، فهو يمتد طولا من المكتب حتى الجدار، وكان إذا امتد فوق الفراش جعل رأسه إلى الجدار ليواجه كتبه التي بجانب مكتبه وخلفه، فإنَّ رؤيتها كانت تبعث السرور في نفسه، وربما أشعرته بالخَدَر الذي يفضي به إلى النوم.

ومن طريف ما أخبرني به الأستاذ عبدالله أنه كان إذا جَفاه النوم فَزِع إلى القصيدة التكريتية التي مطلعها (عُجْ برسم الدار فالطللِ فالكَثِيب الفرد فالأَثَلِ)، يقرؤها حتى يغلبه النعاس فينام. والقصيدة التكريتية قصيدة يتيمة مسمطة لشاعر اسمه التكريتي عاش في عدن في عهد الدولة الأيوبية، وكان الأستاذ عبد الله معجبًا بها أيَّما إعجاب، ولذلك نشرها في عدد قديم من أعداد مجلة الحكمة، وكان يرى أنها تستحق أن تدرَّس في الثانويات والجامعات.

واستطرادًا، كانت عقلية الأستاذ عقلية رابطة، لا يكاد يذكر موضوعا أو قضية إلا ويذكر عشرات الموضوعات أو القضايا المتصلة به، وهو ما كان يفضي به إلى الاستطراد والانتقال من حقل معرفي إلى آخر. وانطلاقا من هذه العقلية الرابطة رأيته يجمع القصائد اللامية وبدا أنه في صدد عمل مقارنات بين قصيدة التكريتي واللاميات الأخرى، وجعل هذا مدار حديثنا ومذاكرتنا عدة جُمَع، فبعد أن جلسنا لقراءة التكريتية أقرؤها أنا ويشرحها هو والحاج سعيد سلام يستمع؛ شرعنا في قراءة لامية ابن الوردي الشهيرة التي مطلعها: اعتزل ذكر الأغاني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل. ثم إنه صوَّر لنا لاميَّة العرب للشنفرى يريدنا أن نتذاكرها، وكان يلمِّح أيضا إلى لاميَّة العجم.

... الجمعة الأخيرة

ثم سافرتُ إلى مصر للدراسة وعدت سنة 2006م، والتقيت به ووجدته مرحِّبًا ومذكِّرًا بلقاءاتنا السابقة، وقال إنه يلتقي يوم الجمعة بمجموعة من معارفه ودعاني إلى تجديد اللقاء، مع تغيير اليوم من الأربعاء إلى الجمعة. وكان الدكتور القاضي يبقى معه من صباح الجمعة، ثم نأتي إليه بعد صلاة العصر نحن الثلاثة: الحاج سعيد سلام والأستاذ سعيد عبد الله وأنا. فيدور بيننا حديث العلم والثقافة. ومن طريف هذه الجُمَع أنِّي وجدت الحاج سعيد سلام - وهو رجل سبعيني - يدرس على الأستاذ عبد الله فاضل كتاب البلاغة الواضحة، فعجبت من هذا الجيل الذي لم يكن يعرف للعلم حدًّا ولا نهاية! وفي هذا الأمر كان الأستاذ عبد الله مثالا يقتدى به، إذ ظل العِلْمُ والقراءة شغله الشاغل. وأذكر أني نبهت الأستاذ على أنه يستعمل مصطلح الاقتباس لتوظيف كل من الشعر والنثر، فقلت له إن الاقتباس يكون للقرآن والحديث والتضمينَ يكون للشعر، فطلب مني أن أنتظر، وقام إلى مكتبه فأحضر ورقة وقلم رصاص وطلب مني إعادة هذه المعلومة ليسجلها، فبدا أمامي هذا الشيخ الكبير كطفل في مدرسته يرى أن العمر أمامه طويل طويل، وأنه سينتفع بهذه المعلومة في باقي أيامه، فلله دره من رجل: كان شيخا إذا علَّم وطفلاً إذا تعلَّم! ولم يزد هذا مكانتَه عندي إلا رفعة.

تميزت لقاءات الجمعة بالطابع العلمي والمعرفي، إذ لم يكن موضوع الكتب وترتيبها وتنظيفها ضمن جدول هذه اللقاءات، وقد طلب مني الأستاذ عبد الله أن أحضر مفكرة أدون بها مذاكراتي معه، وللأسف الشديد لم يطل أمد هذه المذاكرات، فقد دخل الأستاذ عبد الله في نوبة مرض ألزمته الفراش طوال رمضانه الأخير (1428هـ)، لكنه تعافى وخرج من هذه الأزمة بروح جديد وقلب سعيد وذاكرة من حديد. والتقينا بعدئذ لقاءاتٍ قَطَعَها انشغالُنا بامتحانات يناير 2008م، ثم قطعها وللأبد سِلْكٌ في الأرض في مكتبه بمبنى جامعة عدن، عثر به، فسقط، فأصيب بكسر في مفصل الورك أقعده وألزمه الفراش.

لم يكن الأستاذ عبد الله ممن يُؤْثِرون القُعود، ويَعْرِفُه طلابُه بأنه لا يجلس طوال ساعتين من المحاضرة على كرسي، على الرغم من كبر سنه، وحتى في أيامٍ كان يأتي فيها إلينا مريضًا منهكًا، يحاضر وهو واقف. لم يَقْوَ هذا الزمن على حمل رجل بثقل عبد الله فاضل فأغرى به السلكَ الخائن ليطيح به أرضًا، فما زاده ذلك في نفوسنا إلا ارتفاعًا وسموًّا وبسوقًا، وبقيت صورته واقفًا أشدَّ رسوخًا في أذهاننا من صورته مُقعدًا.

اخترت أن أزوره بعد هذه الحادثة، في يوم جمعة، لم أعلم أنها آخر جمعة أراه فيها، وجدته متشبثًا بالحياة، غير يؤوس ولا عاجزًا إلا عن تحريك رجل واحدة. وكان أكثر حديثه عن العلم، ومما قال إنه سيظل يدرِّس ولو جيء به إلى قاعة الدرس على كرسي. وأوصانا بالطلاب خيرًا وقال: بعض المدرسين يتعاملون مع الطلاب وكأنهم أعداء لهم، ونَسُوا أن مهمتهم أن يأخذوا بأيديهم إلى بر المعرفة؛ لكنه ذكر في المقابل نوعًا من التلاميذ لا يستحقون إلا الرسوب لأنهم يتعاملون مع العلم والمعلم إما باستعلاء أو بفهلوة.

الغرفة رقم (321)!

يعرف أساتذة الجامعة وموظفوها هذا الرقم جيدًا، إنه رقم غرفة مكتب الأستاذ عبد الله فاضل في الجامعة. وهي غرفة في منتصف الجناح الغربي من الدور الثالث. كانت أول أمرها ملاصقة لمكتب رئيس الجامعة الدكتور صالح باصرة، لكونه مستشارًا له، ثم نزل رؤساء الجامعة التالون إلى الدور الثاني، وبقي هو في الأعلى!

كان الناس إزاء هذه الغرفة نوعان: نوع إذا مر بها طَرِب ورَغِب، ونوع إذا مر بها رَهِب وهَرَب؛ نوع يسعى إليها سعيًا، ونوع يجري عنها جريًا؛ نوع يحوم حولها في انتظار قدومِه، ونوع لا تعرف فِناءَها أقدامُه؛ نوع يراها روضة من رياض الجنة، ونوع يراها حفرة من حفر النار. فكان لسانُه يقطر لهؤلاء العسل، ويرمي أولئك بحِدَاد الأَسَل، وهو في ذلك يصدر عن شجاعة وصراحة في القول، فإذا سألته عن شيء قال لك: «واحد اثنين ثلاثة» - كرقم الغرفة - بصراحة وشجاعة غير هياب ولا عيّاب.

فالنوع الأول هم طلبة العلم والمعرفة والفائدة، وطالبو الحق، ومَنْ طاب مسعاهم في الحياة، فأمنوا انتقاد الأستاذ. والنوع الثاني هم طلبة المال والمناصب، المنافقون والمتزلفون، الانتهازيون والوصوليون، من تلطخت أيديهم وأفواههم، عيونهم وأنوفهم، أذونهم وجلودهم، نفوسهم وأفكارهم، قلوبهم وأكبادهم ... وكان الأستاذ يعرفهم! يعرفهم من سيماهم، ومن لحن قولهم، ومن ثيابهم وعطورهم، من نظراتهم وأنفاسهم، من جلساتهم ووقفاتهم ... كيف لا يعرفهم وهو الدارس (علمَ نَفْسِهم). فأنَّى لأمثال هؤلاء أن يقتربوا منه أو من غرفته، لقد كانوا يسلكون طريقا غير التي يسلكها، وإذا وجدوا أنفسهم من غير بُدٍّ في حضرته كان عليهم شجاعًا - غير أقرع - وقَرَّعهم بمطارقَ من حديد الكلام!

الأستاذ فاضل في كلمات

الإنسان مجموعة من الكلمات، يكررها ويرجِّعها في مواقف كثيرة ومختلفة، فتكون لازمة له، ويعرفه الناس بها. ومن كلام الأستاذ رصدت ثلاث كلمات كان يرددها، هي:

(1) مَعْنَى: وهي الكلمة المقابلة للفعل (يَعْنِي) الذي يستعمله كثير من الناس لحشو الكلام عندما يصلون إلى مرحلة العِيِّ والعجز عن الكلام. أما استعمال الأستاذ فاضل كلمة (معنى) فلم يكن دليل عجز، بل على العكس من ذلك كانت دليلاً على قدرة كاملة وغزارة في المعرفة، فهي عنده نقطة تفجُّر الكلام؛ لأنه كان يستعملها بداية لاستطراده في قضية ما أو توضيحٍ أو تفسير الكلام بآخر. فكلمة (معنى) عنده تستعمل في مقامي الاستطراد والتفسير. وهي تعكس ميزتين في شخصية الأستاذ عبدالله، هما: غزارة المعرفة التي أهلته للاستطراد، والرغبة في توصيل المعرفة وهي التي كانت تدفعه إلى التفسير والتوضيح.

(2) ولاشِي: كان يقول هذه العبارة في مقام (المُطَامَنَة)، يجابه بها أولئك الذين يهوِّلون الأمور ويصعِّبونها على أنفسهم وغيرِهم، وهي تعكس ميزة في شخصية الأستاذ عبدالله هي الثقة في النفس والقوة في العِلْم. وأصوِّر هذه العبارة بدبوس يفجر بالون التهويل الذي ينتفخ فيحول دون رؤية المرء الأشياء أمامه في وضعها الطبيعي، وما إن ينفجر هذا البالون بدبوس عبارة (ولاشي) حتى ترى العينُ الأشياءَ حولها وبأحجامها الطبيعية. وعبارة (ولاشي) تظهر قدرة الإنسان على فهم أي شيء والتعامل معه، والبشر في ذلك سواء، فما عمله شخص يستطيع أن يعمله شخص آخر، وقد كان الأستاذ عبد الله مؤمنًا بأننا لا نستخدم من إمكانات عقلنا إلا أقلَّ القليل.

(3) ساعات ساعات: كان الأستاذ عبدالله يستعمل هذه العبارة في مقام معاكس للعبارة السابقة، مقام العجز البشري والضعف الإنساني الذي لن يبلغ الكمال أبدًا، إلا أنها عنده تمثل الاستثناء لا الأصل، وذلك بانحصارها في ساعات محدودة. وسأذكر هنا ثلاثة مواقف أذكر جيدًا أنَّ الأستاذ عبدالله استعمل فيها هذه العبارة: (الموقف الأول) عندما كان يعلمنا كيف نكتب حرف (t) كان يشدِّد على أنَّه أقصر من (b) وأطول من (c)، لكنه كان يعترف بأنه ساعات ساعات كان يجد نفسه مخالفًا لهذه القاعدة فيكتب (t) بطول (b). (الموقف الثاني) كان الأستاذ عبد الله يُقِرُّ بأنه في كتابته العربية ينساق مع الرسم القرآني ساعات ساعات، ويعزو ذلك إلى أنه كتب القرآن كاملاً على اللوح وهو طفل، فرسخت صور بعض الكلمات من يومئذ فهي تمارس سلطتها على قلمه ساعات ساعات. (الموقف الثالث) قبل وفاته بنحو خمسة أشهر كنا نتدارس في بيته قصيدة ابن الوردي (اعتزل ذكر الأغاني والغزل)، فلما بلغنا البيت الذي يقول (إنَّ مَنْ يَطْلُبُهُ المَوْتُ على / غِرَّةٍ منهُ جديرٌ بالوَجَلْ) قال بنبرة صدق: والله إن الإنسان يخاف من الموت ساعات ساعات!

ثلاثة أبيات

كانت هناك ثلاثة أبيات شعرية كنت كثيرا ما أسمعها من الأستاذ عبد الله فاضل:

هي:(1) لَحَفَ الترابَ وبالحَصِير تأزَّرا

شعبٌ بحَمْدِ الله يَمْشي للوَرا

وهو البيت الذي كتبه بخط يده وجعله في مكتبه بجامعة عدن ليراه كل زائر له. وهو بيت يعكس الروح الساخرة في شخصية الأستاذ عبد الله، لكنها روح تنطلق من وعي الأشياء وتتبع حركة التاريخ؛ إذ لم يعمه كثرة العمران وتطاول البنيان عن تراجع الوعي الحضاري لدى كثير من الناس. وهو في هذا لم يدعُ إلى اليأس والركون إلى الواقع السيئ، وإنما آمن بأن المستقبل أفضل، ولا طريق إلى المستقبل الأفضل إلا بالعلم.

(2) ما مضى فاتَ، والمؤمَّلُ غَيْبٌ

ولكَ اللحظةُ التي أنتَ فيها

وهذا بيت كان يقوله الأستاذ عبد الله في مقام سد الذرائع التي كان غالبًا ما يتذرع بها طلابه لتقصيرهم في العلم أو التهيب منه. وقد كان كثيرًا ما يواجه أنواعًا من الطلاب يزعمون أنهم لم يتعلموا الإنجليزية في الماضي وأنهم لن يفيدوا منها في المستقبل، فيزجرهم بهذا البيت، ولا يترك لهم عذرًا. وقد كان الأستاذ عبد الله في تدريسه الإنجليزية يبدأ مع الطلاب من الصفر بدءًا من تعليم الحروف، فمن أين يتأتى لهم العذر؟!

(3) الناسُ للناسِ من بَدْوٍ وحاضرةٍ

كان يقول لي هذا البيت في مقام تأكيد التواصل والمحبة والتعاون. وكان هذا البيتُ رَدَّه الأثير على قولي له وأنا أودعه بعد جلسةٍ في منزله: لك أي خدمة يا أستاذ عبدالله؟. وينمُّ هذا البيت عن شخصية اجتماعية ومتواضعة تعترف بحاجتها إلى الناس، على الرغم من أني لم أرَ الأستاذ يومًا في حاجة ماسة إلى أحد، في حين كان الجميع حوله في مسيس الحاجة إليه. وقد كان رحمه الله يقول لي هذا البيت بطريقة مقطَّعة كأنه أراد تحفيظي إيَّاه، لكني مع الأسف حفظت صدره ونسيت عَجُزَه، اتكالا على أني سأحفظه في المرة التالية، ومرت الأيام ولم أحفظه. لكني أعد الأستاذ أني سأقضي شطر عمري الباقي في البحث عن تلك الشطرة!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى