في الذكرى الـ11 لرحيل الشاعر الكبير نزار قباني.. الشاعر الذي كسر زجاج الشمس وعانق القمر ولامس المحيط ولم يقف على خليج

> «الأيام» مازن سالم صالح :

> مابين 21 مارس 1923 و30 أبريل 1998م امتدت حياة الشاعر الكبير نزار قباني ووصل قطار عمره إلى المحطة الخامسة والسبعين، على أن هذه السن الرقمية جزء متصل بالحياة الغامرة بالتعب والجهد.

ولا ينفصل عن حياته العامرة بالحب والحيرة والصمود والمقاومة والثورة والعنفوان الذي مازال مشبوباً في ثنايا الآفاق الشعرية الممتدة في دفات دواوينه وحتى بعد رحيله، وعلى مدى ستين عاماً من العطاء الأخاذ الباذخ الربيعي المولد والمسكون بالهوى والساكن إلى جانبه والمدله في فضاءات العشق المتوهج ببريق حواء.

ولعل المثير في الأهمية التي اكتسبها شعر شاعر كبير كنزار قباني، يرجع إلى جماهيريته وإلى علنيته التي تعلي من مقدار البوح والرفض وترفض الكبت وخطاب الباطن، ذلك لأنها ثائرة متمردة موغلة في الثورة، وطنية إلى حد السخرية:

كيف ياسادتي يغني المغني/ بعدما خيطوا له شفتيه/ هل إذا مات شاعر عربي/ يجد اليوم من يصلي عليه/ لايبوس اليدين شعري /وأحرى بالسلاطين أن يبوسوا يديه

وكذلك هي تلك الجماهيرية لديه اجتماعية متحررة من السياسة وسياسية خالية من التقييد والتعقيد:

حتى العيون الخضر يأكلها العرب / حتى الضفائر والخواتم والأساور /والمرايا واللعب/ حتى الطيور تفر من وطني ولا أدري السبب /حتى الكواكب والمراكب، حتى الدفاتر والكتب/ وجميع أشياء الجمال.. جميعها ضد العرب

وكما بلا شك أن المجد الإبداعي المؤثل الذي بناه نزار من وحي رهانه على الشعر والذي توجه لسنوات ملكا متوجا على القلوب والخلجات سيحتفظ ببريقه مشعاً طيلة عقود متقادمة وربما أكثر حتى بعد رحيله، ذلك أنه صاغ ملاحم شعرية خالدة غاية في الرهافة والفرادة حتى لربما أن حالة الفقد الكبرى التي تمثلت برحيله، قد وجدت صداها بعد غيابه.. بوصفه دوماً المنشد الأكبر والأوحد وبمشاركة وجدانية من الجميع وبمعادل موضوعي يتمثل في صيغة الخطاب الجمعية عبر الضمير «نحن» لعدم تكلفه «الأنا» في تفجيره المكبوت بإعلان وعدم إذعانه في النطق عن المسكوت في إتلاف حميمي لطبيعة شاعر ملحمي يتكرر لربما في القرن مرة واحدة:

في بلادي

حيث يحيا الناس من دون عيون

حيث يبكي الساذجون

والتي تسكن في الليل بيوتاً من سعال

أبدا.. ما عرفت شكل الدواء

تتردى جثثاً تحت الضياء

في بلادي

بلاد البسطاء

حيث نجتر التواشيح الطويلة

ذلك السل الذي يفتك بالشرق

التواشيح الطويلة

شرقنا المجتر تاريخاً/ وأحلاماً كسولة

وخرافات خوالي/ شرقنا الباحث عن كل بطولة

في أبي زيد الهلالي

وإذا ما أملنا النظر جانباً إلى الجوانب النقدية في شعر نزار وهي غزيرة ولا يمكن الإلمام بها كلها عبر هذا التداعي المقترن بالصفة والحدث.. لكن لابأس إذا ما أشرنا مثلا إلى جانب السردية الحوارية والتصاعدية الدرامية في بعض قصائده.. كما في القصائد الاجتماعية من واقع الأحداث اليومية بالنسبة للجانب الثاني، وكما «قالت لي السمراء» و«بنت السلطان» و«قارئة الفنجان» بالنسبة للأول.

والأمثلة كثيرة ومتعددة وموفورة لديه وتستعصي على الحصر وإن كان الحال في السياق يوجب التمثيل للإشارة والدلالة:

في حياتك يا ولدي امرأة

عيناها سبحان المعبود

فمها مرسوم كالعنقود

ضحكتها أنغام وورود

والشعر الفجري المسنود

يسافر في كل الدنيا

على أن هذا المنطلق أيضاً في تتبع الحيثيات والمنجزات الإبداعية والشاعرية الخالدة لشاعر (فحل) كنزار يطل وفيراً ومشوقاً وملهماً لكن التجوال في تلك الفضاءات والمنطلقات الشعرية الرحبة، يستلزم الدقة والموضوعية، إذا ما أردنا الولوج إلى سبر أغواره أكثر، لكن الولوع بشيوع نمط التمثيل على مقتضى الحال، يظل الأيسر، باعتبار الكثير من قصائد هذا الشاعر الكبير مغناة ومسموعة وفي المتناول حتى بالنسبة للعامة، وبموجب قياس الصورة حتى وإن بمسوغ واحد. للرجوع لذلك نشير فقط إلى طابع الخطاب من المنجز الشعري النزاري بطاقاته التعبيرية واللغوية المتناهية في القوة والصدق والحميمية والمتنامية من أوار المخيلة الشعرية المحلقة والجامحة لديه، بصوره اللافتة والمتعددة والمستثناة عنده بالنسبة لغيره، والمنتمية إلى وقائع الحياة اليومية بأحداثها المختلفة:

يحملني معه يحملني/ لمساء وردي الشرفات /وأنا كالطفلة في يده/ كالريشة تحملها النسمات /يحمل لي سبعة أقمار/بيديه وحزمة أغنيات/يهديني شمسا.. يهديني/ صيفا وقطع سنونوات/ يخبرني أني تحفته/ وأساوي آلاف النجمات/ وبأني كنز وبأني/ أجمل شاهد من لوحات

أما فيما لو أخذنا ذلك المنطلق بمقاييس النقد، ثانية، لتبدت فيها مبهرة حدائقه الشعرية النضرة، المخضرة، المخضلة بنفائسه المعبرة والتي كانت العمود الرئيس لخيام وظلال قصائده، حتى أنه منها أتى وانفرد بكلاسيكية خاصة، قطعاً ليست الكلاسيكية الشعرية المعروفة، ولكنها طبعاً كلاسيكية لحقت به ونسبت إليه في انثولوجيا خاصة.. بالنسبة للشعر العربي الحديث ومختاراته الشعرية الرائعة -أي نزار - كفيلة بتأكيد وتوضيح وتطبيق ذلك، ويمكن الوصول إليها عبر فقرات نظمه ببداهة.. وبذلك أضحى صاحب بلاط شعري خاص .. طاف فيه ودندن بجميع الأنسام والأصوات والأشرعة ولم يتوقف عند خليج معين لتواصل الأنداء والضفاف عنده عبر محيطه الشعري المتسع ومن منبع شعري واحد وبخيال جامح وإباء شامخ:

أعود إلى دمشق ممتطياً صهوة سحابة/ ممتطياً أجمل حصانين في الدنيا/حصان العشق وحصان الشعر/ أعود بعد ستين عاماً/لأبحث عن حبل مشيمتي/ وعن الحلاق الدمشقي الذي ختنني/وعن القابلة التي رمتني في طشت تحت السرير/ التي قبضت من أبي ليرة ذهبية/ وخرجت من بيتنا في ذلك اليوم من آذار عام 1923م/ ويداها ملطختان بدم القصيدة

لقد كان نزار شاعر من طينة الكبار، من طينة ملوك الشعر وإن في طبقات المتأخرين وعصور اللاحقين.. لكننا في النهاية وعلى الرغم من الاختلاف فمن المؤكد أننا نتفق على ذلك ونقر به ونعترف.. حتى وإن كانت مساحة شعره مبنية على التناقض والأضداد والتلازم الوثيق لأنها مساحة إنسانية، عاش فيها مبدعاً على تخوم الشعر وتهوم النثر وضفاف الأسئلة الحائرة من منابع الأجوبة لديه والمجلية والمخفية عند الأغلبية الصامتة.

وبالعودة إلى الجماهيرية ذاتها التي تمتع بها نزار، تبرز إشكالية أن هذه الجماهيرية محفورة ومغروسة ومشيدة بوجدان المرأة ووعيها الأنثوي عبر ضميرها المخاطب في شعره وأن حواء تستولي على مقامات كثيرة وكبيرة فيها.

وبعيداً عن التكلف النقدي والتمهيد له ندع الإجابة تنطلق من لسان شاعرنا هذه المرة.. حيث قال بنفسه في الإجابة عن هذا السؤال: «أنا شاعر قضية والمرأة جزء من هذه القضية، فالمرأة يمكن أن تكون وردة في ثوب سترتي، وقد تتحول هذه الوردة إلى سكين يذبحني ، المرأة عندي أرض ثورية ووسيلة من وسائل التحرر الاجتماعي التي يخوضها الوطن العربي اليوم، إنني أكتب للمرأة وعن المرأة، لكي أنقذها من براثن الرجعية المهيمنة ومن سيف الجلاد وهي الضحية».

أما إذا ما عدنا تاليا لتأمل المعطيات الشعرية في مساحة الإبداع النزارية، بنظرة نقدية مجددة، في أعتابها التلقائية المبسطة سنستشف من بنية النص «السردي» عند نزار قباني ذلك الحزن الكامن في أغوار شعره وهذا الحزن بنظري المتواضع لا يحتاج إلى جهد بالغ لاستظهاره وتبيانه، ذلك لأنه مجلي في البنى السردية الحوارية لديه من منلوج الخطاب الكلي بصيغة الجمع في المجمل العام ومن ديالوج الخطاب الفردي بصيغة الخاص في إطار الذات بترجيعه الصدى أو التكرار كما هو مألوف وشائع لديه.. ومن تتبع المعطى الشعري في ثنايا التجربة الشعرية عنده.. قد لايستغرب المتفحص ذلك «ملامح الحزن» فلها أصداؤها الحياتية والنفسية لديه والمنداحة من قصائده ، وقد أبان هو وكشف بذاته عن خباياها وجوهرها عبر عدد من اللقاءات الصحفية المحررة و التلفزيونية المسجلة:

يارب إن لكل جرح ساحلا

وأنا جراحاتي بغير سواحلِ

كل المنافي لاتبدد وحشتي

مادام منفاي الكبير بداخلي

على أن الانسلاخ من متاهة ومساحة الحزن في شعره، يبدو ظاهرياً لديه.. إذ سرعان ما يتحول إلى مواجهة الحزن واليأس المبثوث عبر بنى شعره ذات الأنساق الشعرية والتكوين الدرامي والإيقاع الحياتي اليومي إلى مواجهة دائمة مع الثابت والمتغير من المنظور الحياتي والشعري معاً.. بسلاح الأمل النابض بالحياه إذ لا تحتمل هذه البنى لديه الموت شعرياً وإبداعياً وما عداه فحياتياً قد غيب الموت شاعرنا هذا الجميل الملهم المبدع على إثر فراق موجع مؤلم.. لكن الملامح الشعرية المتفردة والباذخة بحساسيتها الشديدة.. أضحت حياة خاصة جديدة متجددة ومتولدة من كيان شعري خاص حفظ وسيحفظ إلى ماشاء الله ذلك البهاء الإبداعي الأثير والنقاء الشعري المثير أزماناً طويلة لدهشتها وفرادتها المستوحاة من الألم، النابضة بالحزن وحرارتها الصاخبة بالحلم المشرقة بالأمل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى