> الادب «الأيام» د. أحمد صالح رابضة:

كان الأستاذ الدكتور أحمد صالح رابضة أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة عدنقد تحدث في الجزء الأول من هذه الدراسة العجالة.. ( عدن . معالم . وماثر .) عن واقع معالم ومآثر مدنية عدن والمزاعم التي لحقت بها في قضايا أصولها بين الشك واليقين .. وما نسب لبعضها .. وما ألقي بعضها الآخر من ظلال الشك، خاصة تلك التي كان للا ستعمار البربطاني يدا في إعادة ترميمها أو إصلاحها.. وفنّد كثيرا من تلك الرويات التي كان يجب أن توضع موضع شك لقلة نصيبها من النقد والتمحيص، لا سيما ما ورد منها في الإكليل لأبي حسن الهمدامي المتوفي عام 350هـ، وغيره من المصادر.
يسعدنا أن نقدم الجزء الثاني من هذه الدرسة:
إشارات متفرقة أخرى في كتب الهمداني، والقلقشندي، والدينوري، وعمارة اليمني، وأبي الفداء، والخزرجي ، وبامخرمة وغيرهم، وهي إشارات غير دقيقة لم تفصح عن زمن تشييد هذه المآثر أو تلك فجاءت هذه الإشارات مقتضبة لاتشقي غليل الباحث، ولا تقدم له تصورا شاملا عنها، وقد ظهر الخلط وتباين الروايات فيها واضحا، ففي حين ينسب ابن المجاور بناء المنارة للفرس، ويروي قصة ظريفة في هذا الصدد. يجمع المؤرخون بمن فيهم أبو الفداء - وتبدو روايته أكثر وضوحا - على أنها من مخلفات العصر الأموي.
ثم يأتي الآثاريون فيدلون بدلوهم، حيث يرى سيرجي شيرنسكي أن المنارة شيدت في القرن الثامن الميلادي، وأن زخرفتها تعود إلى القرن السادس عشر، وأن قاعدتها المضلعة ربما كانت قائمة على أثر قديم لعله يعود إلى ما قبل الإسلام (3).
وقد استند كما يلاحظ في استنتاجه هذا إلى المصادر الكلاسكية، والمعاينات والأولية للموقع والمقارنات بين المآثر من حيث زخرفتها وطريقة البناء.
وبيدو التباين واضحا في الروايات التي يسوقها الباحثون والمؤرخون والدارسون بمختلف مذاهبهم ومناهجهم العلمية عن الصهاريج، فمنهم من يعزو بناءها إلى الرسوليين والطاهريين، ومنهم من يميل إلى الاعتقاد بأنها من مخلفات الحضارة اليمنية القديمة (4) ومنهم من يخلص إلى القول : أن صهاريج الطويلة وحدها مجرد صرائف (5)، وأن ما يعنيه الكتاب والرحالة الأقدمون بصهاريج عدن هي تلك الشبكة من الصهاريج داخل مدينة عدن (6)، وقد ذهب البحث الاثري مذهبا آخر وسلك مسلكا يغاير هذه الأراء أو يكاد ، وذلك بعقد المقارنات بين المآثر المماثلة في بلادنا في بيحان والضالع وحضرموت وغيرها، فوجد أنها تمتاز بنفس مزايا مواصفات صهاريج مدينة عدن وتتفاوت في أحجامها وسعتها مما حدا بالدارسين الآثاريين إلى القول "إنها من مخلفات الحضارة اليمنية القديمة (7)، وقد اكتشفت البعثة اليمنية السوفيتية المشتركة ـ سابقا ـ أثناء تنقيبها في مستوطنة (قنا) التاريخية في محافظة شبوة صهاريج صغيرة، لعلها تتفاوت في أحجامها. وعثر الأهالي في مدينة الشحر على صهاريج وخرانات مختلفة الأحجام في الطريق المؤدية إلى (تبالة)، لاشك أنها هي الأخرى من المخلفات الحضارية القديمة.
ونحن ندرك ـ والحال هذه ـ أن اليمنيين الأقدمين عرفوا فن الهندسة المعمارية وأتقنوا وسائلها، فبنوا السدود الضخمة، كسد مأرب المشهور، وسدود أخرى أتى على ذكرها المؤرخ الهمداني، وشيدوا المعابد الفخمة، والدور المختلفة التي اكتشفت حديثا في (ربيون) بوادي دوعن، وفي مستوطنة قنا التاريخة في محافظة شبوة، وشقوا الأنفاق والممرات العملاقة، كنفق عدن التاريخي، وممر مبلقة في شبوة وكلاهما يرجعان في أغلب الظن إلى مخلفات الحضارة اليمنية القديمة، وقد أثار ممر مبقلة إعجاب الآثاري ويندل فليبس، فوصفه وصفا دقيقا في كتابه "كنوز مدينة بلقيس" (8). هذا إلى جانب المآثر والمعالم الكثيرة التي امتلأت بها وديان ووهاد وسفوح الأرض اليمنية، ومعظمها في المحافظات الشمالية من الوطن اليمني، وقد أتى على ذكرها الأستاذ السياغي في كتابه "معالم الآثار اليمنية" (9).
إن الاعتقاد السائد لدى بعض الدارسين الذين يشككون في الزمن التاريخي لبناء الصهاريج ويسعون جاهدين إلى قطع الصلة بينها وبين المخلفات الحضارية، للأدوار التاريخية للحضارة اليمنية القديمة يثير بعض التساؤلات، بيد أنه يغني البحث العلمي بما يثيره من جدل ونقاش يفيد الدارسين والباحثين، ويحفز النفس إلى مزيد من البحث العلمي الرصين، على الرغم من أن البحث الأثري في بلادنا يؤكد على الأخذ بنظرية المآثر المماثلة ومقارنة بعضها بالبعض الآخر. ويخلص إلى أن هذه المآثر ترجع إلى المخلفات الحضارية القديمة. وقد أجرى بعض الباحثين الآثاريين دراسات على جزيرة صيرة - كموقع تاريخي وآثاري قديم هو الآخر، وكمنطقة كانت مأهولة بالسكان من أقدم الأزمنة تبين لهم أن اكتشاف الجزيرة هو اكتشاف لتاريخ مدنية عدن (10)، ودعوا إلى إيلاء أهمية خاصة لهذه المواضع الأثارية كلها والعناية بمخلفاتها، وإجراء الفحوصات والدراسات المستمرة عليها بغية الحفاط عليها.
لقد نبه علماء الآثار وخبراء المعالم التاريخية على أهمية الحصون القائمة على السلسلة الجبلية في جزيرة صيرة وحقات، بما في ذلك القلعة التاريخية التي تضرب بجذروها إلى القدم، حيث كانت هذه الحصون ماهولة بالسكان، وقد أكدت المصادر الكلاسيكية صحة ما ذهب إليه هؤلاء العلماء في هذا الصدد فأفادت أن قادة البلد في عصورها السحيقة والوسيطة كانوا يلجأون إليها ويلوذون بها، وكانت مساكنهم على قمم الجبال على "الخضراء، والمنظر، والتعكر"، ونذكر من هؤلاء آل زريع 470 - 569هـ / 1077- 1172م ، وآل أيوب 569 - 626هـ / 1173 - 1229م.
والأقوام الأخرى الوافدة كالبربر، وأهل القمر، وكانت تنتشر في هذه المواضع العديد من الدور المشهورة، مثل: (دار السعادة) وهي دار ذات طراز فريد، و (دار البندر) و (دار صلاح) و (دار الخضراء)، وغيرها، ولهذا فالمنطقة كلها تعد من أقدم أحياء مدينة عدن، وقيام المشاريع العمرانية عليها ينبغي أن يتم بحذر شديد وبطرائق علمية كي لا يمس أثرا مازال قائما أو مطمورا.
وفي جولة استطلاعية لجيل ضراص، أبو الوادي، شاهدت في صيف سنة 1985، بقايا بعض التسويرات الجبلية التي اختفت بفعل التعرية أو نتيجة التفجيرات الجارية في الجبل بغية شقه.