لا تتكلم .. لا تتألم .. لا تتظلم .. أنت لا تتعلم !!! ..هَمٌّ مشترك ولغة واحدة على امتداد أرض العروبة

> أحمد محمد الحمري:

> عندما انتهيت من قراءة أقصوصة "الكلام" للزميل الأديب أحمد السعيد، واستمتاعي بأحداثها مرتين: استمتاع ما قبل فهم النص .. واستمتاع ما بعد فهم النص، وكلاهما كانا انعكاسا لشفافية (الرواي - المؤلف) الذي حول أحداث الأقصوصة إلى بؤرة مشعة تفضح بشكل جلي أزمة من أزمات وجودنا .. وتكشف بطريقة النقد الساخر اللاذع الكاشف عن متناقضات مريرة مازالت تنمو باطراد في مكانية النص الرمزية المحيلة - في الألفية الثالثة للعصر الحضاري الراهن - إلى رموز السلطة في الوطن العربي بكافة واجهاتها وأدواتها القمعية الموجهة بوحشية لتدمير كيان الإنسان - المواطن.. واستلاب حريته وكرامته وقيمه ومبادئه.
هذه البؤرة الفاضحة لحضارة التخلف القائمة في الوطن على مص دماء الشعب وتوزيع الشعارات ككلام فارغ وجاهز ومن لا يقول (نعم) بصورة دائمة يعتقل أو يصفى، يقف أمامها الجميع فيتذكر أنه يعرفها، ولكن لم يخطر له أن يتملى أمورها سابقاً ولم يدرك أنها بهذا العمق من الوحشية التي فاجأنا بها (المؤلف) وهو يضبط بإحكام شديد لا يخلو من نغمة تهكمية تعلن الغضب والسخرية والتمرد معاناتها ومكابدتها الإنسانية الحادة التي تصل إلى حد تشظي الإنسان - المواطن .. وهو يواجه الجلاوزة والجلادين وحيداً أعزل حتى من أبسط وسائل الدفاع عن حقوقه الإنسانية التي تجيزها شرائع الحق السماوية وجميع المواثيق الدولية الوضعية.
ولعلي لا أغالي في الحديث إذا قلت إنه انتابني تساؤل حساس، إزاء إجادة ملف الأقصوصة - إلى حد الاحتراف التقني - فن التعامل الإبداعي مع طبيعة هذا الفن القصصي الجديد، الأشد إيجازا وإنجازا، والأكثر تطورا في القصة العربية المعاصرة المبتعد عن الصياغة اللغوية للنثر الفني الناهض بالسياق السردي الخيطي المنطلق من بداية ما إلى نهاية ما، وعن البناء الروائي المستخدم في القصص القصيرة، والروايات التقليدية الكلاسيكية والحديثة، والباحث دائماً عن معادل فعلي تذوب من خلاله الفروق السردية الزمنية للحكاية بين السارد والشخصية الرئيسية وبين السارد والزمن وتختفي فيه المسافة بين النص مبدعا والقارئ مبدعا وعلاقة الحيز المكاني بحيز الحكاية ويذوب النص الحكائي في القاص والمحكي في المحاور، حيث تحول المحاور (المؤلف) إلى شخصية من شخصيات عمله، ولا ننسى تلك الشعرية المتناغمة في الحوار الداخلي الرافض الاستسلام (تيار الوعي) التي تشي باستئناس المؤلف بلغة مع نفسه بلغته في جو نفسي ضاغط بالزواجر والنواهي يلقي بظلاله الكئيبة على المكان النفسي والزمان النفسي المتخيلين، إلى جانب العذابين الجسدي والنفسي المنصبين عليه من كل اتجاه وجانب ليجد رغبته في رفع مستوى التلقي لهذا الموقف العصيب من الحالة السلبية إلى ممارسة الفعالية التي تجعل القارئ شريكا لا يمكن الاستغناء عنه في المتخيل السردي للحوار وفي عملية إنتاج المعنى وتصور تطور الحدث.
والواقع أن استغناء الزميل الأديب أحمد السعيد في أقصوصته "الكلام" عن أهم عنصرين من عناصر القص وهو التوتر الدرامي الذي يجتهد كل نص قصصي أو روائي عادة في شدة وتركيز وحداته بغية جمع الخيوط الحكائية على بؤرة واحدة تجتمع عليها كل جزئيات النص وانصرافه بعيداً عن الشطحات أو الجزئيات التي قد تضاف إلى الحدث وتهن المتخيل السردي للحدث وتعرقل زمن الخطاب الزاجر (لا تتكلم .. لا تتظلم .. لا تتألم .. أنت لا تتعلم) الذي يقابله عدم الاستسلام قولا وفعلاً بهامة مرفوعة وروحا حرة رافضة أبية، وإبقاؤه على الحدث في بؤرة واحدة مشعة بفضح الأساليب الوحشية الممارسة جسدياً ونفسياً تشد البناء وتكثف كل وحداته لتصب في محرق واحد للتعذيب مما يكثف وحدة الانطباع عند المتلقي القائمة على الإدهاش والمباغتة، وتوسع من أثارهما في نفسيته لهو دليل ساطع بأننا أمام مؤلف يتعامل مع لغته تعاملا واعيا برؤية إبداعية أصيلة مستفيدا من خبراته الغنية بتجارب الممارسة العملية وفهمه الواعي لطبيعة النص في القصة القصيرة والمسرحية والشعر والرواية والأقصوصة .. مؤلف ينزع بقوة إلى الانفكاك من التقليدية في الكتابة والانطلاق من قممها إلى فضاء التحديث ليثبت من خلاله براعته في فن القص المتجاوز بما تم التواضع عليها من فنيات في سعي حثيث منه لاختراع مسارب جديدة في تقنيات القص تتأسس على مداميك معرفية راسخة في مجال القص تؤهله باستمرار للبحث عن تطويرها والوصول إلى البنية الفنية التي تفتح أمام المتلقي عوالم مدهشة من التساؤلات والاحتمالات وبعبارة واحدة نحن أمام كاتب الكتابة القصصية لديه (فعل التسلل إلى الداخل).
فلننظر جميعنا إلى القفلة القصصية في أقصوصة الكلام التي جاءت على عكس ما هو منتظر ومتوقع لنكتشف أن هذه القفلة (لا تستسلم) بقدر ما تحمله من تفجير في اللغة والموقف والحدث تنهي ـ بشكل مدهش ـ دور المؤلف ليبدأ دور المتلقي في البحث والمعرفة فيما وراء عبارة (أنت لا تتعلم)، وبهذا الشكل يساهم المؤلف والقارئ معا في صياغة المعرفي والجمالي في الأقصوصة، وتتجلى (الفانتازيا) التي حلقت بها وهي تلقي بظلالها الدلالية لتفتح أمام المتلقي عالما آخر من الأسئلة والتداعيات المعرفية .. تجعلنا نشد على يد زميلنا الأديب المبدع أحمد السعيد لمواصلة فتوحاته في عالم القص.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى