(الشعر الصامت) ..احتباس فكري في صميم الخطاب الشعري العربي

> أحمد محمد الحمري:

> مقدمة : قبل أن نبدأ بمعالجة موضوعنا .اسمحوا لي أن أوضح أمورا ثلاثة :
أول هذه الأمور: إن الموضوع الذي نحن بصدد تناوله بالمناقشة المفتوحة وتبادل الرأي ، لايعدو أن يكون مجرد( رؤية اجتهادية) في موضوع القصيدة الشعرية مابعد ..بعد الحداثة العربية المعاصرة المندرجة تحت مسميات مختلفة لعل من أبرزها :
( الشعر الصامت / الشعر العاري من الموضوع /الشعر الذي لايقول شيئا ..شيئا محددا في الأقل/ الشعر التجريدي / الشعر النقي / الشعر الصافي / القصيدة الصامته ..في بياض تام ..) وغير ذلك من مسميات القصيدة النثرية المبهمة دلاليا ، التي تتغذى مماوراء الواقع والمجهول ، وتحلق في عوالم تمتنع بطبيعتها عن إمداد الشاعر بموضوعات أومضامين ، تشكل حضوريا في النص الشعري .. عوالم تقوم على الاعتباطية -واللامعقول - واللاتخطيط -وتتكىء على الفوضى المنحدرة بقوة إلى هاوية اللعب.
أردنا بهذه الرؤية المبنية على استئناس برؤى اجتهادية أخرى / أن نستثير المخزون النفسي والعاطفي في وجدانكم، وأن نعكس اهتمامات عملية لديكم ، تكون بمنزلة (العلامة) في مواجهة ظاهرة مسكوت عنها داخل الثقافة العربية هي ظاهرة عدم تصدي قادة الفكر وصفوة النخب المثقفة في الوطن العربي لمشروع فكري حداثي مستجلب من خارج دائرة الأدب العربي ينذر بالخطر على الثقافة العربية عامة ، أما لخشية هؤلاء من الخوض فيها ، أوترفعا منها عن المجادلة، أوغير ذلك على الرغم من إدراكهم الواعي لخطورة الغايات التي يستهدفها هذا المشروع المرتكز على عقدة التأثر بالحداثة الغربية وفكرها وقيمها ومبادئها ، والمتقوقع على مفاهيم ونظريات ومناهج في الأدب والنقد تشكل بؤرة إنضاج (لاحتباس فكري) في صميم الخطاب الشعري العربي وإمكانات التواصل معه دلاليا، والمتعصب لقلب كل المعادلات والعرف والفهم، وزعزعة الثوابت وإمحاء كل ما قر في الفكر النقي العربي من قيم ومقولات، وفرض خطاب ثقافي جديد ليس في مجال النصوص الشعرية العربية فقط؛ وإنما يتجاوزها إلى الانساق الثقافية الأخرى من سياسية واجتماعية وحضارية .
الأمر الثاني :
أننا بإثارة موضوع الشعر الصامت في الإطار اللأشمل لشعر الحداثة العربية المعاصرة لانستهدف فتح مفاضلة داخل الثقافة العربية الواحدة بين لونين شعريين منها: أحدهما قصيدة عمودية تقليدية والآخر قصيدة نثرية حداثية ، بل لكي نقرأ ظاهرة العلاقات بين النخب الثقافية العربية : كيف تتعامل الثقافة العربية مع نفسها ؟وما أثر الواقع الثقافي الموضوعي الراهن في تكييف قراءتها لنفسها ؟ ثم كيف نضع أحكامنا نحن كمثقفين عن الأمور الثقافية والسياسية والاجتماعية والحضارية ؟ وما المؤثرات الذاتية والموضوعية التي يخضع لها فكرنا في صوغه تلك الأحكام ؟
ولاأدّعي أن موضوعنا هذا يجيب عن هذه الأسئلة في هذه العجالة،
ولكننا نريد أن نضع معا بعض العلاقات على الطريق، أو بعض المؤشرات من أجل تطوير البحث في الآن والمستقبل، وتعميق وعينا حول موقفنا من شعر الحداثة وشعر البنيويين الجدد وجلهم نخب ثقافية عربية ترتفع بالمناقشة والتحليل والتقييم إلى حد أدنى من اللقاء والتوافق والإجماع .
أما الأمر الثالث الذي نريد إيضاحه، فهو يتعلق بما أتصوره من أن قادة الفكر وصفوة المثقفين العرب، وربما كثيرون غيرهم قد تعودوا باستمرار أن يعالجوا المواقف ( المصيرية ) بعد وقوعها وهذا من الناحية الفعلية يعني أن لادور طليعي استشرافي لهولاء يضطلعون به في المواقف الفعلية لحظة وقوعها، بل ليس هناك أصلا قادة فكر وطلائع نخبوية مثقفة قادرة على التأثير في الواقع وإعادة ترتيب الأوضاع الفكرية والإيديولوجية في المجتمع العربي، وهذه المواقف السلبية رسخت - بلا أدنى شك_ نوعا من تعود التفكير في الأموروالحكم عليها بعد وقوعها وبالتالي بعد إيضاحها.
إن هذه النظرة (المعملية) للأمور لاتحدث في أي مكان آخر من العالمإ لكنها للأسف تحدث بشكل ثابت ومستمر في الوطن العربي .
وحتى لايفقد موضوعنا ، مبتداه ..علمونا أن الشعر العربي ، منذ فاتحه العقول البشرية بابتكاره ، وحتى معرفة آفاقه المعرفية والفنية -معرفة علمية - وتسلح الذهن ببعض الألوان البديعة...عنده ( تحكمه طبيعة معرفية - وتشكله مادة لغوية ويغذيه منبع شعوري).
"وما الشعر الا احتراق الشعور وصهر الفؤاد وذوب الفكر"
وبمعاناة المطالعة والمتابعة ، منحتنا الذاكرة الشعرية بعض من خصائص الشعر ووظائفه ..فعرفنا -مثلا- أن (المنفعة) وظيفة من وظائف الشعر المعرفية وقيمة، وما المقولة الشهيرة (الشعر ديوان العرب) إلامن تجسيدات هذه الوظيفة ..فهي تعني في إحدى دلالاتها (تصويرالشعر للحياة العربية ومافيها من قيم وأخلاق وتقاليد )، كما تعني (تدوين هذا الشعر لأخبار العرب وحروبهم وأيامهم وحفظ أنسابهم) وبهذا المعنى يعد الشعر العربي عموما (سجلا تاريخيا) صحيحا وموثوقا عند العرب، تقبل شهادته وتتمثل إرادته بما يفرضه من موضوعات شعرية واضحة -حاضرة - ومتجددة في ذاتها وفي شكلها الإيقاعي ، تكتنفها نصوص شعرية متماسكة ، وعناصر لغوية ودلالية تنوعا وتماسكا.
تحولات تاريخية واجتماعية :-
ولقد ظلت محمولات هذا المنهج الشعري ومحدداتة تتعزز على امتداد تاريخ تطور الشعر، وبلغت سماتها الحداثية التي أبدعتها الثقافة العربية بالارتكاز على خصوصيتها ، قمة عطاءاتها في النهوض بالشعر وتوظيفه توظيفا فاعلا واعيا في تجسيد الواقع المتغير ورسم أبعاده أعماقه وقراءة مستجداته وتحولاته مع المد الإسلامي ، وبالذات في الحقبة الزمنية التي تلت ظهور الإسلام وماصاحب ذلك من حدوث تغيرات عميقة في الحياة العربية / الإسلامية في جوانبها الاجتماعية والفكرية والعلمية والروحية، ومن نمو حضاري متسارع ، عن طريق تناولات ابداعية مجتهدة لاتجاهات أدبية ونقدية بعضها تراثي قديم تكتنفه أمهات الكتب العربية ونفائسها، وبعضها الآخر فيها شيْ من الجدة والمنهجية والعلمية ومن الشمولية نجدها مثبوتة هنا وهناك من منتج الحقل الأدبي والنقدي الحديث، وهاهي كتب اليوم ومجلاته وجرائده تحفل بموضوعات هذا المنتج بأشكال متجددة ومتنوعة ويتسع لها الفضاء الثقافي، والأفق الإعلامي بتقنياتهما المتطورة وآلياتها السمعية والبصرية، وتتصدر المحاور المركزية في مجالس المحاورات والمناظرات الفكرية والثقافية والأدبية في ساحة الخلق الإبداعي لفن الشعر.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى