الرؤية السردية في رواية (سعيد) لمحمد علي لقمان

> د. حفيظة صالح ناصر الشيخ

> تأتي هذه المقاربة للرؤية السردية في رواية (سعيد) لمحمد علي لقمان كمقارنة نقدية لتبيان التلازم بين مايسمى بالسرد والحكاية، فلا قصة متخيلة أو حقيقية بدون سرد ولا سرد بدون قصة، وما النص القصصي أو الروائي إلا بنية وحدث، لكنهما لايتمخضان إلا عن (رؤية) معينة أي عن وجهة النظر التي يعتنقها الكاتب ويريد أن يطرحها فيما يكتب لأن كل أديب يهدف إلى طرح نسق فكري يعكس موقفة من الكون والطبيعة والإنسان، وعلى هذا فإن (الرؤية) أو وجهة النظر أو المنظور الروائي كما يسمية البعض هو المركز الذي تدور حوله الأحداث، حيث أن الكاتب يحاول من خلال النسيج السردي لأحداث روايته الوصول في النهاية إلى رؤيته أو جهة نظره التي يؤمن بها، والتي استثارته وحفزته إلى الكتابة، وهو يأمل في الوقت نفسه أن تبقى رؤيته هذه أو وجهة نظره في نفوس وعقول المتلقين بعد فراغهم من القراءة.
وإذا ما انتقلنا مباشرة إلى الرواية موضع (المقاربة) فإننا سنحاول الإلمام (برؤية) محمد علي لقمان السردية في روايته (سعيد) وكيف أسهمت في خلق عالمه الروائي الذي يقدمه الكاتب عادة من خلال العلاقة بين الأقطاب الثلاثة الآتية:
1- السارد/ المؤلف نفسه أو شخصية تنوب عنه في سرد الأحداث.
2- المسرود له/ وهو المتلقي - القارئ حقيقياً كان أو ضمنياً.
3- المسرود/ وهو موضوع الرواية الذي ينطوي على رؤى الكاتب المختلفة سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية ودينية وأخلاقية... الخ.
على أن الروائي يعول كثيراً في تقديم وجهة نظره على بعض من عناصر الرواية لاسيما الشخصيات أو الإطار (الزمكاني)، فالشخصيات تحمل فكر الكاتب ورؤاه النافذة الفنية والفكرية التي لايمكن أن تفهم بعيداً عن سياقها الاجتماعي والتاريخي ولأيديولوجي، بل سياقها الحضاري بعامة.
وشخصية (سعيد) في عمل لقمان سواء أكانت حقيقية أم متخيلة تحمل بعضاً من ملامح مبدعها، فالقارئ يلحظ مستوىً واضحاً من التماهي بين الشخصية والمؤلف، وذلك عندما نكتشف العلاقة السلطوية بين الكاتب والشخصية التي يعرف عنها المؤلف أكثر مما تعرفه عن نفسها، فلقمان يرى مايجري في دماغ بطله، وهو يعرف أسراره ونواياه، ومعتقداته، ورغباته، وآماله، مما جعل الشخصية تبدو محكومة وتابعة لمنطق الروائي، ومن هنا فإن لقمان يبلور من خلال هذه الشخصية وجهة نظره، ويمرر من خلالها خطابه الأيديولوجي بحيث استحال (سعيد) - البطل الروائي - إلى منتج لخطاب المؤلف الأيدلوجي ورؤاه المختلفة.
ويتخذ الكاتب موقعاً سردياً يتابع منه أفعال الشخصية وأقوالها، وذلك من خلال استخدامه صوت السارد الغائب المتمثل في القص بضمير الغائب (هو)، فهذا الضمير يسمح برؤية الشخصية ومتابعة عالمها بدقة متناهية تجعل السارد/ المؤلف (كلي العلم) بهذه الشخصية وبعالمها الخارجي والداخلي المحجوب عن الأنظار، وبذلك تبدو الشخصية صدى للكاتب ينطقها بما يريده هو لا بما تقتضية المواقف التي تعيشها، وتحركها وفق منطقه هو مما يجعل فعل القص ينمو باتجاه موقفه ورؤيته،لهذا جاءت شخصية (سعيد) مثالاً للخير المطلق؛ لأنها المرآه التي تعكس أفكار الكاتب ومعتقداته في السياسة والاقتصاد والدين والتربية، فهي النموذج المطلوب المرغوب من الشباب في تلك الفترة من تاريخ الشعب العدني حيث أخذت أخلاقيات الشباب في الانحدار والسقوط بسبب تركز الثروات بين يدي بعض الشباب الذين يفتقرون إلى الأسس الضرورية للخلق القويم وأهمها العلم والثقافة والتدين الصحيح والتربية الصالحة الصارمة وغير ذلك من الأسس الكفيلة بحماية الشباب من الضياع والسقوط الأخلاقي.
وهناك بعض الشخصيات الثانوية الهامة في الوقت نفسه التي يعتمد عليها الروائي في حمل (رؤيته) الفكرية والتربوية ومنها زهراء وعائشة وعثمان الذي يقف - كسعيد تماماً - واعظاً ومرشداً وخطيباً داعياً إلى الخلق الحميد، والسلوك القويم من خلال تفسير بعض أخلاقيات الشباب العابث، ومن خلال الاستشهاد بقصص من الموروث الشعبي والديني، وتنهض عائشة بجزء من رؤية الكاتب حينما تظهر حيناً رافضة للمعتقدات البالية مثل طب المشعوذين والدجالين، ورافضة للتفاون الطبقي. ومفسرة - حيناً آخر - للواقع تفسيراً منطقياً وعلمياً في آن ومن خلال شخصية زهراء نتعرف على موقف محمد علي لقمان من العلاقة بين الرجل والمرأة، وما يفعله سلطان الحب على القلوب على حد تعبيره، فهو كمفكر ومثقف ومصلح لايرفض هذه النزعات الإنسانية وإنما يدعو إليها في إطار تنويري توعوي لايحرمها وإنما يساعد على إقامتها في أجواء من الصفاء والنقاء والطهر والسمو والوفاء وغير ذلك من المثاليات الأخلاقية العاطفية التي حكمت علاقة زهراء بسعيد بحيث بدت تلك العاطفة مغرقة في رومانسيتها ومثاليتها.
ومن خلال مواقف هذه الشخصيات وأقوالها واستطرادتها لانتعرف - كمتلقين - على وعي هذه الشخصيات الروائية، وإنما نتعرف على ثقافة المؤلف الفكرية والدينية والتربوية والسياسية.. الخ، مما يجعلنا نقول -جازمين- أن المؤلف قد تقمص هذه الشخصيات ووزع نفسه ورؤاه ووجهات نظره فيما بينها وإن احتفظ بالجزء الأكبر من تماهيه السردي مع الشخصية المحورية (سعيد) الشخصية المحتفى بها على عادة الرواية التقليدية في الاحتفاء ببطلها الرئيس؛ حيث يبدو البطل في هذا النوع من الروايات شخصية لديها القدرة على التأثير فيمن حولها والمشاركة في صنع الأحداث وتطويرها والمساهمة في تشكيل حركة المجتمع باتجاه الأفضل.
وفي مقابل هذه الشخصية الخيَّرة على الإطلاق، يرسم الروائي شخصية (سالم) نموذجاً للشر المطلق وهو أيضاً - أي الروائي - يعرف كل شيء عن هذه الشخصية ماضيها وحاضرها، طفولتها وشبابها، أهواءها، نزعاتها، نواياها، ويأتي الروائي بهذه الشخصية وشخصية أخرى هي (حسن) أخو (سعيد) لتكتمل دائرة الرؤية لديه بحيث إذا كان سعيد وعثمان وعائشة وزهراء - وهم أقطاب النصف الأول من الرؤية السردية - شخصيات خيرة يدعو الكاتب إلى الاقتداء بها، يكون سالم وحسن - وهم أقطاب النصف الثاني من الرؤية - شخصيات غير خيرة ومحذر منها لأنها تحمل بداخلها بذور تدمير الذات، وبالتالي تدمير المجتمع، وفي إطار رؤيته السردية الخلفية التي تتيح معرفة كل شيئ، يشيد محمد علي لقمان مواقف وحوار شخصيات خاصة سعيد الشخصية الرئيسة وعثمان الشخصية الثانوية الهامة، بحيث بدت هاتان الشخصيتان - وهما الأنا الثانية للسارد - شخصيتان محاورتان متمكنتان من كثير من العلوم والثقافات والمفاهيم والمعارف التي تسرد في محاورتهما سرداً طويلاً قد يستغرق صفحات كما هو حوار عثمان مع عائشة (4 صفحات) وحوار سعيد مع شيخ الطريقة أربع صفحات.
ومن خلال حوار هاتين الشخصيتين لايسستعرض لقمان آراءه ووجهات نظره المختلفة فحسب، وإنما يستعرض قراءاته ومشاهداته التي يستعين بها في الوعظ والإرشاد مما جعل حوار الشخصيات حواراً استطرادياً، متشعباً، وبدا السرد متضخماً مترهلاً مثقلاً بالآراء التعليمية، وبمنظومة القيم والأخلاقيات التي يدعو إليها الكاتب والتي ماكانت لتتبلور إلا من خلال ترجمة الشخصيات لها في أفعال وأقوال وصفات.
وينهض المكان في رواية محمد علي لقمان بجزء من رؤيته الفكرية، فمن خلال المقاطع الوصفية لبعض الأمكنة مثل وصف (مبرز القات) في بيت الشيخ سلمان والد سعيد، ووصف (المخدرة) يعبق المكان بنكهة عدنية مميزة، فأجواء البخور والعود والعنبر والمفارش والستائر والتكايا والمداعة والقات تدفع بالمتلقي إلى داخل تلك الأمكنة المترعة بالغنى والرفاه الذي كان يحياه أهل عدن في تلك الحقبة، وتأتي هذه الأوصاف لتثبت واقعاً اجتماعياً مترفاً يحرص الكاتب على دوامه وبقائه واستمراريته، وهي ديمومة لن تتحقق إذا انحرف الشباب عن جادة الحق والرشاد بابتعادهم عن طلب العلم وانغماسهم في الشهوات واللذات التي قد تجعله ومجتمعه أيضاً صيداً سهلاً للأجانب والغزاة.
إن الروائي من خلال عنصر المكان استطاع أن يكسب إيماننا بواقعية ما يروي، وذلك من خلال العرض المثبت في عالم الواقع بتفاصيلة الزمانية والمكانية والحدثية، وهو خلال ذلك كله ثقف خلف خطابة الروائي في موقع يسمح له بنوع من الرؤية الكاملة الشاملة، فلا نسمع إلا صوتاً واحداً مسيطراً ومهيمناً هو صوت الراوي العليم بكل شيء.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى