عن بوشكين.. وأشياء أخرى

> د. هشام محسن السقاف:

> أغرت (موسكو) نابليون بونابرت عام 1812م ولعلها أغوته أيضاً، كان هوسه استعراضياً على الطريقة الفرنسية، باستكمال (مَرْشَه) العسكري في آخر مكان في أوروبا من الناحية الشرقية، وكانت قباب الكنائس المذهبة تعكس أشعة شمس ذابلة وتسقط في عيني الفرنسي المغامر وهو يستعرض جحافل نصره في الساحة الحمراء كأجمل ما تمناه في حروبه التي لا تنتهي، دون أن يدرك أن عسل (موسكوفا) قد دُسّ فيه السم لحظة أن أخلى القائد الروسي المحنك (كوتوروف) المدينة لينعم القائد الفرنسي في السراب الخادع قبل أن تُحاصر وتُغلق من فرسان القيصر وحليفهم الجنرال (ثلج)، وهي مدينة تفتح فاها لتأكل من خيرات القرى المحيطة بها.
وقد مثل الأحداث برؤية سردية لا تخلو من العبقرية (تولستوي) في ملحة (الحرب والسلام) في (تراجيديا) مبتكرة تصف الالتقاء الروحي الفياض بين الأبطال (الفرسان في المعركة) والله وهم يخرون صرعى بعد تجليات مع الله قبل انعتاق أرواحهم.
كان الجنرال (ثلج) والحصار كفيلين بثمن باهض يدفعه (نابليون)، هرولة مخزية تجاه وطنه الأم وفي الأعقاب يكر الفرسان الروس والحلفاء أو المتحالفون الأوروبيون حتى باريس، وهنا يجد الفرسان الروس شيئاً لم يكن بالحسبان، شيئا مغايراً لما ألفوه في روسيا القيصرية حيث القنانة لم تبارح مكانها، فعادوا من باريس محملين بأفكار الحرية والعدالة والحقوق المتساوية كما تصوغها الثورة الفرنسية الكبرى، عادوا وفي خبايا أنفسهم ميل إلى الإصلاح في وطنهم.
في ديسمبر من العام 1825م ينتفض الفرسان النبلاء بعد أن مهّدوا لذلك بتأسيس المنظمات السرية، ولم يكن في صميم توجههم الإطاحة بالقيصر الكسندر الأول بالقدر الذي يجبره ذلك على قبول الإصلاحات الديمقراطية في دواليب حكمه المطلق، عرفت هذه الانتفاضة بانتفاضة (الديسمبريين)، وقد مجَّد شاعر روسيا العظيم الكسندر (بوشكين) هذه الحركة وانحاز إلى أبطالها ممن شنقوا أو نفوا بأمر من القيصر.
لكن (بوشكين) لوحده كان حركة ثورية جبارة بأشعاره الخالدة أخافت كثيراً قيصر روسيا مما ألّب عليه القصر الحاكم وحاشيه القيصر الذين لم يكتفوا بنفيه في الجنوب الروسي وإنما بخلق مؤامرة دنيئة انتهت بقتله في المبارزة الشهيرة مع الفرنسي (دانتس) عام 1837م.
يقول بوشكين في قصيدة (الحـرية) التي تمجد الديسمبريين:
الا ابتعدي عن طريقي
ياربة الأوتار الخافتة
أين أنت.. وأين أنت
إيتها العاصفة الرجولية
يامغنية الحرية الفخورة؟
إقتربي ومزقي أكليلي
وحطمي قيثارتي الناعمة
أريد أن أتغنى بالحرية الإنسانية
وأفضح الرذيلة في عروشها
ويعتقد ناقدون كثر في روسيا أن لهذا الشاب الفضل في إحياء اللغة الروسية وإيقاظها من سبات عميق، بعد أن شاعت اللغة الفرنسية كلغة أساسية في أروقة الحكم والبلاط القيصري، واعترف بعبقرية (بوشكين) كبار أدباء عصره، وظلت روحه الشاعرة تظلل سماوات روسيا حتى اللحظة، ولذا كنت أتعجب من دموع معلمة الأدب الروسي العجوز كلما قرأت علينا نصوصاً من أشعار (بوشكين) بينما نحن لا نفقه من اللغة الروسية سوى كلمات ميسرة ولما يمضي على دراستنا في السنة التحضيرية سوى أشهر قليلة، فذهبت أبحث عن السبب عند (بوشكين) نفسه، تمثاله الضخم في وسط المدينة حيث يتبارى الشعراء على إلقاء قصائدهم أو قصائد (بوشكين) نفسه تحت قدميه، وفي عيد ميلاده تعزف الفرقة النحاسية أنغاماً رائعة، وترتفع بوكينات الزهور المهداة إليه من الزوار وترفرف في الأجواء روح مبهمة لا شك أنها روح شاعر عظيم.
أن يَّد النحات قد جعلت نظرات (بوشكين) ناطقة متحركة، تتجه إليك أينما كنت في جنبات مساحة التمثال، كما أنها لم تهمل الملامح الشرقية المعروفة عن بوشكين وخاصة شعره الأسود المضفر أوهكذا يبدو، ويعزا ذلك إلى أن جده كان من أصول أفريقية حبشية من جهة أمه (ناد يجدا) التي كانت حفيدة (إبراهيم جانيبال) من الضباط المقربين لدى القيصر بطرس الأول حيث امتلك - تبعاً لذلك - شعراً أجعداً وشفتين غليظتين.
ومن المعروف أن الشاعر بوشكين قد مجد القرآن الكريم والنبي محمد-صلى الله عليه وسلم- وزوجاته العظيمات من خلال تشربه للتراث الإسلامي في فترة نفيه في الجنوب الروسي، يقول بوشكين في قصيدة (النبي):
يضنينا عطش الروح
وفي الصحراء الموشحة
كنا نتمدد
فظهر لنا في مفترق الطريق
سارافيم ذو الأجنحة الستة
وبأصابع خفية مثلما في حلم
لمس قرة عيني..
فانفرجتا مقلتاي النبويتان
كأنهما عينا نسر مذعور
فأصغيت إلى رعدة السماء
وتحليق الملائكة في الأعالي
وسريان حركة أغوار البحار
ونمو الكرمة النائية
وناداني صوت الله
إنهض يارسول وابصر
لبِ إراداتي
وجبْ البحار والأراضي
والهبْ بدعوتك قلوب الناس
ومن قصيدة (قبسات من القرآن):
أقسم بالشفع وبالوتر
وأقسم بالسيف وبمعركة الحق
وأقسم بالنجم الصباح
وأقسم بصلاة العشاء
لا لم أودعك
يامن في ظل السكينة
دسست رأسه حباً
وأخفيته من المطاردة الحادة
ألست أنا الذي رويتك في يوم قيظ
بحياة الصحاري؟
ألم أهب لسانك
سلطة جبارة على العقول؟
أحمدْ إذن وازدري الخداع
أحبْ اليتامى وقرآني
وبحر المخلوقات المهتزة
وعن نساء النبي-صلى الله عليه وسلم- كتب (بوشكين) متأثراً -دون ريب - كما في قصائده السابقة، بالقرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة:
إيهِ، بازوجات الرسول الطاهرات
إنكن تختلفن عن كل الزوجات
فحتى طيف الرذيلة مفزع
لكن
في الظل العذب للسكينة
عشن في عفاف
فقد علقن بكن
حجاب الشابة العذراء
حافظن على قلوب وفية
من أجل هناء الشرعيين والخجلى
ونظرة الكفار الماكرة
لا تجعلنها تبصر وجوهكن
أما أنتم ياضيوف محمد
وانتم تتقاطرون على أمسياته
إحذروا
فبهرجة الدنيا تكدر رسولنا
فهو لا يحب الثرثارين
وكلمات غير المتواضعين والفارغين
شرّفوا مأدبته في خشوع
وانحنوا في أدب
لزوجاته الشابات المحكومات.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى