المعـــلــم مدعــو لتربيــة الشــعب

> رباب محمد فرحان

> كتب مكسيم جورجي أن أنطون تشيخوف ذلك القاص الروسي العظيم دعاه ذات يوم لزيارته في ضيعته في الريف الروسي وأسمعه الكلمات التالية: “لو كان عندي نقوداً كثيرة لأقمت هنا مصحا للمدرسين الريفيين المرضى، فالمدرس ياعزيزي بحاجة إلى معرفة كل شيء.. آه لو تعلم مدى حاجة الريف الروسي إلى المدرس الجيد الذكي والمثقف، ينبغي علينا في روسيا أن نحيط المدرس بعناية خاصة، ويجب أن نفعل ذلك بأسرع ما يمكن إذا كنا ندرك أنه بدون شعب مثقف ثقافة واسعة ستنهار الدولة كالبيت المشيد من طوب لم يحرق جيداً، يمضي إلى تعليم الأولاد في الريف بنفس الرغبة التي يمضي بها إلى المنفى، أنه جائع، مقهور، خائف، من أن يفقد كسرة الخبز، ينبغي أن يرى فيه الفلاحون قوة جديرة بالاهتمام والاحترام، حتى لا يجرؤ أحد على إذلال كرامته.. إن من الحماقة أن تدفع ملاليم لرجل مدعو لتربية الشعب.. أتفهم؟ تربية الشعب، لا يجوز أن نسمح، وفي الثلاثين من عمره يكون قد أصيب بالتهاب رئوي وبالروماتيزم والسل، عار علينا هذا، إنه يتبلد من الوحدة بدون كتب، بدون ما يرفه عن نفسه، كل هذا كريه، إنه امتهان لإنسان يؤدي عملاً في غاية الأهمية، أتدري.. عندما أرى المدارس أشعر بالحرج منه بسبب وجله، وبسبب ملابسه الرثة، ويخيل إلّي أنني مذنب بصورة ما في بؤس هذا المدرس صمت و استغرق في التفكير”، ثم أشاح بيده قائلاً: “يا لها من حمقى روسيانا هذه”.
كلمات جميلة كتبت في نهاية القرن التاسع عشر، إلا أنها ما تزال تحتفظ بقيمتها و روعتها حتى وقتنا الراهن، ذلك هو الأدب العظيم الذي يبقى محافظاً على رونقه حتى بعد مئات السنيين من كتابته.
يقع المدرس لدينا في أدنى مرتبة من السلم الاجتماعي، فالسياسي يعيش خيراً منه، وكذا الشيخ أو القبيلي ولو كان أمياً، والضابط، والتاجر، وحتى الموظف في اليمنية والمصافي والاتصالات، وفي غيرها من المرافق خير منه، الكل خيراً منه.
فماذا بقى لديه ليعلمه لأطفالنا؟.. و هو لا يحسن أن يسكن جيداً ولا يأكل طيباً ولا يلبس جديداً ولا يستطيع شراء كتاب أو جهاز كمبيوتر، بل لا يستطيع أن يدفع مصاريف العلاج!.
بعد دمار الحرب العالمية الثانية قال ديجول: “طالما التعليم بخير ما زالت فرنسا بخير و ستنهض من كبوتها”.
في اليابان راتب المدرس يساوي راتب الوزير، وفي دول الخليج يزيد راتب المدرس الواحد عن راتب عشرين مدرس يمني، وفي دول أوروبا يزيد راتب المدرس عن ثلاثة أضعاف متوسط دخل الفرد فيها، وفي بريطانيا يحكمون على المدرس بنزولهم إلى منزله، كيف يسكن وما يقرأ، وكيف يأكل.
قابلت مدرساً كان يدرسني في المدرسة الثانوية تجاوز الستين من عمره بعدة سنوات سألته عن حاله وكان يبدو على محياه المرض، أراني في يده كيساً مملوء بالأدوية فقد كان يعاني من أمراض السكر والقلب والكلسترول والروماتيزم، رد عليّ قائلاً: “كما تشوفين يا ابنتي، مريض، فقير، ووضعي الوظيفي معلق بين السماء والأرض”. ولم أفهم، سألته مرة أخرى “ماذا تقصد يا أستاذ بكلامك؟”. قال: “طلعوني مسؤولي التربية إلى التقاعد في العام 2010م مع أكثر من ألف فرد من معلمي محافظة عدن، وقد ردتنا مصلحة الضمان حتى نستكمل معاملتنا كاملة، وقد تابعنا وزارة الخدمة المدنية التي أصدرت لنا فتوى بصرف علاوتنا وتسوياتنا منذ توقفها في العام 2005م، ولكن وزارة المالية بالاتفاق مع وزارة التربية رفضت صرفها لنا بحجة الأزمة المالية التي تمر بها البلد في الوقت التي صرفت تلك العلاوات والتسويات لمئات الآلاف من الموظفين في كامل القطاع المدني والعسكري، وأصبحنا معلقين لا نحن موظفين ولا متقاعدين، المصيبة أنهم يقطعون علينا الضرائب كالموظفين، وحتى عندما يخصمون يوماً من رواتب الموظفين يسارعون بخصم ذلك اليوم من رواتبنا، ولكن عند صرف العلاوات يقولون لنا “أبعدوا فما أنتم إلا متقاعدون!””. وسألته أخيراً “كيف تسير أمورك المالية؟”، تمنيت لو أني لم أسأله ذلك السؤال الغبي، أخذت رأسه وقبلت جبهته، فعاد إليه هدوؤه، وقال لي “راتبي ثمانون ألف ريال، يحسبها بعض الحقراء من المسئولين كثير، تصوري أدفع لإيجار البيت والكهرباء والماء والتليفون ولشراء الأدوية ما يقارب خمسين ألف ريال، ويتبقى ثلاثون ألف ريال، علينا ونحن ستة في المنزل أن نأكل بها طيلة الشهر، وأن ندفع أجرة المواصلات لذهاب أبنائي للجامعة ومنها يجب أن نشتري الملابس.
إن حياتي أصبحت عبثاً وضياعاً، تمنيت الموت فقط ليتوفر لأبنائي ما أصرفه من راتبي مقابل الدواء الذي أشتريه شهرياً، والله لو أني ما أخاف الله، وأن الانتحار جريمة يعاقب عليها الخالق بالخلود بالنار، لأقدمت على الانتحار منذ سنوات، وقد عملها للأسف بعض أصدقائي!”.
ذرفت دمعتي على خدي، فتشت في حقيبتي ولم أجد فيها غير خمسمائة ريال، فأخذتها وأعطيتها إياه، امتنع في البدء، ولكن بعد إلحاحي قبل منكسراً ثم ودعني ومشى إلى حال سبيله.
وقفت متسمرة لحظات في مكاني، وتساءلت أهكذا يتم مكأفاة من أفنى زهرة شبابه في تربيةالأجيال.
*رباب محمد فرحان*

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى