الذراع المبتور

> محمد المحوري

> كنت لا آبه في أحايين كثيرة لوعيد والدي المتكرر، ما يؤرقني حقا هي تلك الهالة الحزينة على وجه والدتي المحبب، حين تبلغ عاصفة الغضب ثروتها فيزعق: «لن يجد عملا سيظل عاطلا وعالة».
بالتأكيد أنا لا ألومه، فالحياة قاسية، والسهر حتى ساعة متأخرة من الليل دون البحث عن عمل يملؤني غيضا أكثر مما يبدو له، لكن ماذا أفعل؟ لا أحد يرغب بتوظيف عامل بذراع واحدة، حين حكيت لصاحب المقهى فرتوت عن رغبتي في العمل، تلصص كلص حذق وراح يتغافلني ويرشق ما تبقى من يدي بنظراته الوقحة، والجباري محمد طلب مني السماح له بلمسها، تغاضيت عن تصرفه السمج طمعا في توظيفي، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فزياد الحداد أخذ صورة سلفي وهو يحتضنها، ورسم ابتسامة بلها تحت شاربه الكث المجنون.

سعيد المكوجي هو الآخر طرق منزلنا طرقا عنيفا، وتحت إلحاحه الغريب لوحت بذراعي المبتور أمام كاميرا الفيديو التي يطالعني من خلفها ولده شاهر بنصف عين شبه مغمضة، كان المخاط يتدلى باريحية مفرطة من أنفه الأفطس، ذرعني القيء حينها، وأفرغت وجبتي الدسمة تماما بالكامل.
في مدينتي التي هي أشبه بقرية تفشى مرض الالتصاق بذراعي المبتورة، على الرغم من مضي ما يقارب العامين من فقدانها، إثر قذيفة هاون هوجاء أخطأت مسارها فخطفت ذراعي وصديقي زهران، أذكر أنني جلت بعد إفاقتي، أنبش عنهما بين مزع اللحم وقطع العضام المتناثرة، فقط طاقية زهران الحمراء التي يعتمرها دائما، لاحت تحت عاصفة الغبار الهوجاء.

بعد عاصفة الملاحقة الصاخبة، التي اجتاحت الجميع، لم يعد والدي مكترثا بعملي، كنت أجلب حاجيات البيت من البقالة المجاورة لمنزلنا، وأترك الحاج أحمد يتسلى قليلا بذراعي المبتور، ومن لهفته الطاغية أتصنع رفضا، وأبدأ في مساومة مشترياتي، تحت هوسه القاصم، يرضخ ككلب ووديع، ويناولني حاجياتي بثمن قد لا أحصل عليه فيما لو كنت بذراعين، مع الزمن استغليت تلك الآفة لصالحي، حتى صبيحة ذاك اليوم، زارنا المحافظ في موكب بهي، والتف الحاضرون حوله، وكعادتي رحت السوق لجلب حاجيات البيت، فجأة لمحني أحدهم وزعق بصوت أجش: «رامي هنا».

كلمتان فقط، جردت المحافظ من الحشد الذي كان يطوقه، وقذفتني في السجن، بحجة التآمر ومحاولة التقليل من هيبة السلطات.
بعد عشرة أيام في سجن المحافظة صدر العفو، وقبل خروجي بنصف ساعة وقفت أمام المحافظ، تصلب في البداية كخشبة أمام سطوة الذراع المبتور، تهديداته لي بعدم التكرار كانت باهتة، وكأنه فقد شيئا ثمينا، مرت خمس دقائق وهو يسترق النظر إليها، ثم تحت ثورة الرغبة الجامحة استكان كقط ، وطلب مني البقاء بجانبه كي يرعاني، حينها أدركت أن باستطاعتي إملاء رغباتي كيفما أريد، كما أدركت لاحقا أنه لا يليق بجنابي ألا أن أكون سيادة المحافظ الجديد.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى