صورة الآخر في سيرة (الحبشة) للحيمي

> وهيب سالم السعدي

> عرف الإنسان الرحلة والسفر منذ القدم، فالرحيل سمةٌ من سمات الإنسان، ملازمة له، ولعلَّ الرحلات الأولى للبشر كان الهدف منها البحث عن الحياة، أو البحث عن الأمن، قبل أن تتوسع الرحلات وتتعدد أهدافها وتتنوع مقاصدها.
إن تلك الرحلات، رغم كثرتها، لم يبقَ لها أثرٌ ولا ذكر، وبالمقابل ثمّة رحلات تخلّد ذكرها وبقيت حية حتى يومنا هذا؛ بسبب تدوينها وانتشارها.

لقد تحولت الرحلة من مجرد فعل إنساني إلى أثر أدبي بعد تدوينها، فاهتمَّ بها الدارسون، وحظيت بالطباعة والنشر، وتعددت قراءاتها، وتنوعت أبحاثها؛ نتيجة ثرائها وغنى محتواها.
سنتناول في السطور القادمة صورة الآخر في (سيرة الحبشة) للقاضي الحسن بن أحمد الحيمي، وهي الرحلة التي قام بها في العام 1057م إلى بلاد الحبشة بأمرٍ من الإمام المؤيد بالله (إسماعيل) بن الإمام القاسم.

والقاضي الحيمي هو شرف الدين «الحسن بن أحمد بن صلاح اليوسفي الجمالي اليماني المعروف بالحيمي، أحد أعيان دولة الإمام المؤيد بالله بن القاسم، وأخيه الإمام المتوكل على الله وهو من كبار العلماء وأفاضل الأدباء، وكان يقوم بالأمور العظيمة المتعلقة بالدولة ثم يشتغل بالعلم درساً وتدريساً وكان يوجهه الإمام المتوكل على الله في المهمات لفصاحته ورجاحة عقله وقوة تدبيره». ويصفه المؤرخ الجرموزي بأنه «من عيون الشيعة، وأهل الحلم والكرم والصبر والأناة، والمعرفة لمخالطة الكبراء، وحسن الدعاء إلى الحق».

الآخر في سيرة الحبشة
يعد مصطلح الآخر من أكثر المصطلحات حضوراً وتداولاً في عصرنا الحالي، حيث يتم استعماله في مختلف المجتمعات والثقافات، ويدخل في جميع الميادين والمجالات، ففي ميدان السياسة هناك الآخر السياسي، ووفي ميدان الثقافة هناك الآخر الثقافي، وفي مجال الدين هناك الآخر الديني، ولهذا ازدهرت العلوم والدراسات المقارنة.
والآخر، بمفهومه البسيط، يُعد مقابلاً أو نقيضاً لـ(الذات) أو (الأنا)، فهو يمثل الخصم في ثقافة الأنا، سواء أكان هذا (الآخر) فرداً أم جماعة، ومصطلح الآخر «(تصنيف) استبعادي يقتضي إقصاء كل ما لا ينتمي إلى نظام فرد أو جماعة أو مؤسسة، سواء كان النظام قيماً اجتماعية أو أخلاقية أو سياسية أو ثقافية، ولهذا فهو مفهوم مهم في آليات الأيديولوجيا». وقد يكون الآخر «هو الغير ليس كما هو في الواقع وإنما كما أعيه أنا». والآخر، أيضاً «يعني شخصاً آخر أو مجموعة مغايرة من البشر ذات هوية موحدة، وبالمقارنة مع ذاك الشخص أو المجموعة أستطيع أو نستطيع تحديد اختلافي أو اختلافنا عنها، وفي مثل هذه الضدية ينطوي هذا التحديد على التقليل من قيمة الآخر، وإعلاء قيمة الذات أو الهوية. ويشيع مثل هذا الطرح في تقابل الثقافات خاصة، وهذا ما يسود عادة في الخطاب الاستعماري».

وقد دخل هذا المصطلح في كثير من الاتجاهات التي تعالج نظرية المعرفة، وفي مسائل الهوية الثقافية والتحليل النفسي، وساد في دراسات الخطاب الاستعماري وما بعد الاستعماري وفي النقد النسوي والدراسات الثقافية والاستشراق، وشاع هذا المصطلح في الفلسفة الفرنسية الحديثة خاصة عند سارتر وفوكو ولاكان وغيرهم.
وتنطلق رؤية (الأنا) للآخر «من عمق الثقافة المتمركزة حول نفسها، أي الثقافة التي تقول بقيم، وتؤمن بها، وتدعو إليها، وتنفي كل من لا ينصاع لها، فالاختلاف في منظومات القيم يقود إلى التراتب، والتراتب نوع من التفاضل القائم على ترجيح قيم وتبخيس أخرى».

والرحلة، أية رحلة، من أهدافها معرفة (الآخر) وسبر أغواره، وإظهار ثقافته ومكانته وعاداته، وكثير من الرحّالة لم يتأخروا عن الوصول إلى هذا الهدف، ولم يخفوا ما وجدوه ولمسوه، بل أظهروا ذلك كله في رحلاتهم التي دونوها بعد عودتهم، حتى يكون المتلقي على بينة، وتتجلى أمامه صورة الآخر كما رآها الرحّالة. ولا شك أن ثمّةَ عوامل سياسية واجتماعية وثقافية قد شكّلت وعي الرحّالة وأثّرت في شخصيته، وهذا ينعكس في نظرته إلى (الآخر) لتظهر في خطابه بعد انتهاء رحلته.

وفي أدب الرحلة يبدو (الآخر) من خلال الأفكار والقيم والعادات والثقافة، وتلعب تجارب ومعارف الراوي/ الرحّالة السابقة، التي يكتسبها من خلال الاتصال بمجتمعه أو من خلال القراءة أو الاستماع، دوراً كبيراً في رسم صورة مُسبقة للآخر، وغالباً ما تترسخ هذه الصورة أثناء الرحلة وبعد انتهائها.
وصورة الآخر تختلف من رحّالة إلى آخر، ومن رحلة إلى أخرى، فالباعث على الرحلة ووجهة الرحّالة تحدد طبيعة الآخر، فقد تختلف صورة الآخر في الرحلة الحجية/ الحجازية عن صورة الآخر في الرحلة السياحية أو الرحلة الرسمية/ السفارية مثلاً، وجهة الرحّالة الحيمي تختلف عن وجة الرحّالة جغمان، فالحيمي اتّجه في رحلة سفارية إلى بلد تختلف كلياً عن بلده من حيث اللغة والدين والتقاليد، بينما اتّجه جغمان في رحلة حجازية إلى بلد يلتقي مع بلده في دين واحد ولغة واحدة وأعراف وتقاليد متقاربة. ومن هنا كان اختلاف (الآخر) في الرحلتين.

ولا شكَّ أن ثقافة الرحّالة تفرض عليه تمثيل صورة الآخر دون أن يراه أو يعايشه، وتتضمن كل رحلة صيغة للتقديم وعرض الآخر، فتقدم صورة الآخر من خلال ملامح وبعض سمات العنصر الثقافي بالمفهوم الذي يحمله الراوي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى