ويتهمونا بالانفصال !

> حافظ الشجيفي

>
لقد خلقنا الله نحن الجنوبيين في هذه الأرض التي نعيش عليها وكنا فرقا من المشيخات والسلطنات والقبائل كغيرنا من شعوب العالم نتجاور حينا ونتعارك حينا آخر، كما كنا نتحالف ونتقاتل ونتحامى كما تفعل كل المجتمعات القبلية والإنسانية المنتشرة على الكوكب، وبفعل عامل الزمن والدين والجغرافيا تشكلت تقاليدنا وأعرافنا وعاداتنا وثقافتنا، ولعلنا كنا المجتمع الأرقى ثقافيا ومدنيا من بقية المجتمعات المحيطة بنا بحكم الموقع الجغرافي الفريد الذي وجدنا أنفسنا نعيش فيه على خارطة العالم..

ومن رحم تلك الثقافة والتقاليد والأعراف تولدت شخصيتنا وكينونتنا وهويتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية، ومن ذلك النسيج انبثقت أشعارنا وفنوننا وأغانينا وأهازيجنا إن فى الفرح وإن في الترح حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من تشابه أو تباين في بعض الأشياء نتيجة لاختلاف أو تشابه الظروف المحيطة بنا واختلاف المؤثرات المصاحبة لنشأة مجتمعنا.
وعشنا هكذا إلى ما شاء الله ثم تغير العالم فجأة فقام بكل تعقيداته وكياناته وأممه ودوله بعد استعمار كبير وحروب وقتال وصراعات طويلة أحرقت الأخضر واليابس على مدى قرنين من الزمن بثورات انتهت باستقلال وتحرر الأمم والشعوب من قيود الوصايات الاستعمارية المختلفة، وكنا نحن هنا في الجنوب العربي من بين الدول التي رفعت علم الحرية والاستقلال عاليا خفاقا على هذه البقعة الجميلة من الأرض، والتي سميناها لاحقا بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي ذابت فيها كل المشيخات والسلطنات الجنوبية السابقة..

ولأننا كنا طيبين بعض الشيء، أو كما يقول البعض مغفلين بعض الشيء، أو كما أقول أنا سذجا كل الشيء، وفي لحظة من لحظات المشاعر والأحاسيس الوطنية والقومية العارمة والشعور بقيم الإخاء والترابط والانتماء اعترانا حلم الوحدة وتوقف الزمن لدينا وتراءت لنا خريطة اليمن الكبير، وفى غمرة تلك النشوة المسيطرة قررنا تحقيق هذا الحلم وتحت تأثير مشاعر وانفعالات هذا الحلم الجميل فرطنا بعلمنا وأرضنا ودولتنا وجيشنا وتنازلنا عن سلاحنا ومناصبنا، وتحت تأثير الحماس الجامح الذي استبد بنا غفلنا عن شروط التعاقد الصحيح وجرفنا إحساسنا المرهف بالوفاء الوطني وشعورنا القوي بقيم الإخوة والألفة إلى الوحدة مع الشمال لتشكيل نواة الوحدة العربية الكبرى.

وفي سبيل تحقيق تلك الوحدة قدمنا التضحيات العظيمة والتنازلات الضخمة، وبعد أن أقنعنا أنفسنا بأننا سنحصد ثمار زرعنا وسنستمتع بمحصولنا وجدنا أن المحصول لم يكن إلا مصادرة مستقبل أجيالنا، وأن الثمار المقطوفة لم تكن إلا جماجمنا، وأن التروية التي أشبعنا بها الأرض لم تكن إلا من دمائنا، وأن الماضي قد أزيل والحاضر قد أعدم والمستقبل قد اعتقل، وأن ما نحصده ليس إلا حصاد الهشيم والموت الأليم.

في سعينا نحو الوحدة كنا نبحث عن القوة فازددنا ضعفا، وفي سعينا نحو اليمن الموحد كنا نبحث عن سبيل لبناء حاضر مشرق ومستقبل مبهر وكنا نسعى للأمن والاستقرار وتأمين مستقبلنا ومستقبل أجيالنا القادمة من بعدنا..
ولكن ما حدث كان غير ذلك تماما حيث دمر حاضرنا وقتل مستقبلنا ونُهبت أرضنا وأهدرت حقوقنا، وعدنا من حيث بدأنا على أمل أن نصحح المستقبل ولو قليلا حتى لا تنتقل هذه اللعنة وتوابعها إلى الأجيال القادمة فتلعننا إلى يوم الدين. وضحينا بالكثير حتى الآن في سبيل الخلاص من تلك الدوامة المظلمة.. ودفعنا ضريبة باهظة الثمن..

مثَّل الإعلان عن تأسيس دولة الوحدة بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وبين الجمهورية العربية اليمنية في 22 مايو 1990م وقيام دولة الوحدة حدثاً مهما ومفصلياً في التاريخ اليمني بل والعربي الحديث، فقد نقلت الوحدة الاندماجية بين الشطرين الشمالي والجنوبي فكرة الوحدة، من مشروع طوباوي إلى أمر واقع ومعاش على الأرض بعد أن كان حلما مستحيلا..
هذا المشروع الوحدوي الجميل الذي بناه الجنوبيون بأيديهم الطاهرة، وبذلوا في سبيل تحقيقه كل غال ونفيس، وتنازلوا من أجله عن كل ما يملكون و من دون شروط كسابقة في التاريخ لم يسبقهم إليها شعب من قبل، كل هذا ليس لشيء آخر وإنما للم شمل الشعب اليمني تحت علم واحد وحلم واحد وسقف واحد، حيث كان شعار الجنوبيين حينها، كل شيء يهون في سبيل تحقيق الوحدة اليمنية المنشودة آنذاك والمشؤومة فيما بعد.

ولكن موسم الحصاد والفرح لم يستمر طويلاً، فقد كانت التحديات والمصاعب التي واجهت هذه التجربة أقوى بكثير من طراوة عودها وأهم هذه التحديات تمثلت في أن الطرف الآخر والشريك المفترض، نظر إلى الوحدة على أنها غاية أو مجرد غنيمة، وهذا مفهوم نظرا لأن الشماليين ظلوا طيلة العقود التي سبقت الوحدة، مشغولين ومنهمكين بالتنافس على تقاسم السلطة والجاه والقبيلة واقتسام المساعدات، وعائدات الغربة وامتيازات الحكم فيما بينهم، فأصبحت القبلية والمحسوبية مرض عضال ينخر في جسم حكمهم السياسي، ناهيك عن التسيب والفساد الذي انتشر كالطاعون أو النار في الهشيم بينهم..

هذا المجتمع الموبوء بكل هذه السلبيات الظاهر منها والباطن، عند سماعهم أن الجنوبيين مغرمون بالوحدة معهم ومن دون شروط، ما كان منهم إلا أن قالوا مرحبا بكم، فلم يصدقوا، حينها، أنه بمقدور قوم التنازل عن دولتهم وعن مناصبهم وعن أرضهم وتسليمها لهم على طبق من ذهب، فاستقبلوا قادة الجنوب ورحبوا بهم، بالترحيب الذي لم يتوقعه أشد المتشائمين والمعارضين للوحدة مع هؤلاء القوم، حيث استقبل الموحدون بتهميش منقطع النظير وعدم اكتراث وللوهلة الأولى، من قبل إخوة لهم أو كذلك كانوا يحسبون، ورموا لهم الفتات وبقايا المناصب في الجمهورية العربية اليمنية، وكأنهم دخلاء وليسوا بشركاء في الوطن، والأدهى من ذلك، أنهم ما لبثوا أن شنوا حربهم الشعواء عليهم وجرى التنكيل بهم واغتيال الرموز منهم وهضم حقوقهم وتهميش من تبقى فيهم على قيد الحياة وتسريحهم من وظائفهم، وإقصاؤهم من السلطة، بعد حرب عبثية شنوها على الشعب الجنوبي ككل، وأفضت إلى احتلاله عسكريا بالعنف والقوة، ورغم كل ذلك اتهمونا ولا زالوا يتهموننا بأننا انفصاليون.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى