حين يصبح شهريار راويا (2-2)

> وهيب سالم السعدي

>
وهيب السعدي
وهيب السعدي
وإذا ما نظرنا إلى طريقة السرد في فاكهة الخلفاء فأننا نجد أن الراوي لا ينتقل من حكاية إلى أخرى مباشرة، بل يمهّد للحكاية التالية بمقدمة (حجاجية) تختار كلماتها بعناية، وتُنتقى ألفاظها بدقة، فيضمّنها أمثالاً وحكماً وشعراً، وتكون إيذاناً بوجود حكاية أخرى قادمة، وفي الحكايات المضمّنة كلها، وقبل أن يبدأ الراوي سرد الحكاية التالية، يأتي بجملة تشويقية تحمل إشارة إلى حكاية أخرى، وهدفها الربط والاتصال، حتى لا تبدو القصص مبتورة أو غير متجانسة، وحتى تؤدي وظيفتها العامة مع الحكاية الإطار، وبعد الانتهاء من حكايتها يبيّن الراوي للمروي عليه الهدف من الحكاية.

وتبرز في الحكايات المضمّنة ظاهرة الطلب، فالحكايات تتناسل بواسطته، سواء أكان سؤالاً أم أمراً، فبعد أن يقوم الراوي بتشويق المروي عليه لحكاية جديدة، يطلب المروي عليه من الراوي أن يحكي تلك الحكاية.
إنَّ الحكاية الإطارية (الأم)، التي تُعد حكاية المفتتح، جاءت في الباب الأول من الكتاب، وفي الباب الأول أيضاً، وقبل الانتقال إلى الأبواب الأخرى، تناسلت من الحكاية الإطارية سبع حكايات مضمّنة، هي: (لطيفة الملك أنوشروان، استشارة النبي سليمان لنملة، الولهى مع الضحّاك، واقعة الرئيس مع برهام جور، ما أصاب الذئب مع الجدي المغنّي، ابن آوى والحمار). ثم جاء في كل باب من الأبواب التسعة الأخرى حكاية مضمّنة، شكّلت حكايات إطارية (داخلية)، تناسلت منها حكايات مضمّنة صغرى، لها أحداثها ونهاياتها الخاصة بها. وتنتهي الحكاية الإطارية الأم، باعتراف الوزير بفضل الحكيم حسيب، وتقبيل قدميه، أما الملك فقد قرّبه منه وجعله مستشاره، وكلفه بحل الخلاف بينه وبين إخوته، فنجح الحكيم بذلك ولمَّ شملهم وعاشوا في سعادة واطمئنان.

إن ما يميّز حكايات (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء) هو أن المؤلف، وعلى لسان الراوي، لجأ إلى كسر الرتابة والملل من خلال فصل الحكايات عن بعضها بكلام يطلقه الراوي ويضمّنه بعض الأقوال والحكم والأشعار، قبل الانتقال إلى الحكاية الأخرى، ولعلَّ هذا الأسلوب المتّبع في أبواب الكتاب كلها كان هدفه التشويق، فحلَّ محل عنصرَي الحبكة والعقدة التي لم يظهرا في حكايات الكتاب، فالقصة تنتهي نهاية متوقعة، كون الهدف من الحكايات كان المحاججةَ والإقناع وإسداء النصح وتوضيح أساليب الحكم الرشيد وليس التسلية أو قتل الوقت.

يتخذ السرد، بدءاً من الباب الثاني، منحى جديداً في الحكايات، إذ زاد عدد الحكايات المضمّنة، ما عدا الباب الثالث، وهذا ما أدّى إلى زيادة عدد الرواة في كل باب، وكذا زيادة عدد المروي عليهم.
وابتداءً من الباب الثاني يمثل كل باب من أبواب الكتاب حكاية إطارية، تتناسل منها حكايات مضمّنة (صغرى)، تختلف في عددها من باب إلى آخر. وبذلك يصبح عدد الحكايات المضمّنة في الكتاب 94 حكاية.

وإذا ما نظرنا إلى السرد في الأبواب كلها فأننا نرى أن المؤلف قد التزم منهجاً واحد في سرد الحكايات، إذ يبدأ السرد برواية أبي المحاسن الذي يحكي حكاية الحكيم حسيب، والأخبار التي نقلها عن الهداة والأخيار، قبل أن ينتقل السرد إلى الحكيم حسيب. فأبو المحاسن يبدأ بتقديم بسيط يروي فيه خبر الحكيم. وسنقف ببعض التفصيل على حكايات الباب الثاني، وسنبيّن الحكاية الإطارية والحكايات المتناسلة منها، وسنستعرض الراوي والمروي عليه في تلك الحكايات.

يحمل الباب الثاني عنوان: (في وصايا ملك العجم المتميز عن أقرانه بالفضل والحكم)، وتحت هذا العنوان يبدأ المؤلف نقل روايته عن أبي المحاسن حسان، الذي ينقل رواية الحكيم حسيب عن ملك ملوك الأمصار وسلاطين العجم يُدعى (شهريار). فالحكيم حسيب، هنا، يحكي حكاية الملك شهريار، فيعدّد فضائله ومزاياه، من سياسة وشجاعة وكرم... إلخ، ويحكي أنه كان لهذا الملك ستة من الأولاد (الرجال) قد أخذوا من صفاته وفضائله، وعندما أحسَّ الملك بدنو أجله واقتراب موعد رحيله عن الدنيا استدعى بنيه ليخبرهم أن أجله قد اقترب، فأوصاهم أن يقوموا مقامه وأن يحافظوا على ما بناه.

تُعدّ حكاية (الملك شهريار وأولاده الستة) حكايةً مضمّنة جاءت من حكاية (الحكيم حسيب وإخوته) التي مثّلت الحكاية الإطارية، وفي الوقت نفسه تمثّل هذه الحكاية، أي حكاية الملك شهريار، حكايةً إطاريةً (داخلية)، تتناسل منها حكايات أخرى تشكّل وحدات أصغر هي الحكايات (المضمّنة)، فقد أصبح شهريار راوياً من خلال النصائح التي يسديها لأبنائه الستة، ثم نجده ينتقل مباشرة إلى حكاية مضمّنة هي (حكاية الفلاح والحية). ثم ينتقل الملك شهريار إلى حكاية (التاجر المراقب وما آل إليه في العواقب)، حتى وصل عدد الحكايات المتناسلة تسع حكايات، كان الملك شهريار راوياً لثلاثٍ منها، وروى أكبر أولاده خمساً، وروى التاجر حكاية واحدة.

والحكايات المضمّنة في هذا الباب جاءت من مستوى سردي واحد، ما عدا حكاية (التاجر المجرّب صديقه في الشدّة والارتخاء) التي شكّلت حكاية (إطارية داخلية ثانوية)، حين تناسلت منها حكاية أخرى هي حكاية (الرئيس الذي رعوه في روض وفره وتركوه في قفر فقره). وهذا يعني أنها جاءت في أربعة مستويات هي: المستوى الأول: تمثله الحكاية الأم، الراوي أبو المحاسن، والمروي عليه ضمني (المتلقي). المستوى الثاني: تمثله الحكاية الإطارية الداخلية الأولى، والراوي فيها هو الحكيم حسيب، والمروي عليه أخوه الملك. المستوى الثالث: تمثله حكاية التاجر المجرّب، والراوي فيها هو الملك شهريار، والمروي عليهم أولاده. المستوى الرابع: تمثله حكاية الرئيس، والراوي فيها هو التاجر، والمروي عليه ولده.

ولا شك أن كل حكاية من الحكايات المضمّنة لها وظيفة معينة، تتضافر مع وظيفة الحكاية الإطارية وتكمّلها، ولها نهاية واضحة وغير معقّدة كون الراوي يمهّد لها بكلام يسبقها، فتصبح نهايتها متوقعة؛ لأن ما يهمّ الراوي في الحكايات المضمّنة كلها ليس الحبكة والعقدة أو التشويق، وإنما إقامة الحجة وتأكيد النصيحة عن طريق سرد حكاية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى