الهارب.. شاعر الحب بأبين وشاعر الغزل للعشاق الفقراء

> مختار مقطري

> شعر الهارب شعر غزل غنائي رقيق، برقة معانيه، وبرقة مشاعره، فهو شاعر عاشق ووفي في عشقه، وهذا ما يبدو في شعره، فأنا لم أتعرف عليه شخصياً، لكنه عاطفي في حبه، ومثالي فيه، ولذلك يؤثر في قارئه بعواطفه الدفاقة شعراً قائماً على قمة الإحساس الصادق، فيكتب القصيدة في أقل من خمس دقائق. وما يكتبه في هذه الدقائق هو القصيدة الرائعة التي تلامس جوانحنا، وفيها تضيء مشاعره وتضوع، وتولد زهرة ويتدفق نهر وتفرح عصافير، وبعدها قد يكتب الهارب أبياتاً أخرى، لكنه لا يضيفه للجمال الذي صنعه في لحظات الإلهام الذي يهاجمه بعد منتصف الليل، كما أتخيل.
ويعترف، مع نفسه أن هذا الذي كتبه بعد لحظات الميلاد الحقيقي للقصيدة، ابن غير شرعي.

وهذا الشاعر يأخذ صوره ومعانيه وأفكاره، مما حوله من البساطة والبسطاء، لكن يملأه بدهشة في التعبير واستخدام المفردة استخداماً مفاجئاً، لكن لا غرابة فيه، فيبعث الحياة في القصيدة كلها بيتاً بيتاً وكلمة كلمة، بمفردات عامية عامة، وهو بذلك متأثر بمدرسة الشاعر الكبير الراحل نسير، والفرق بينهما أن نسير لم يظلم فنياً وظُلم الهارب.
والهارب أخذ يدنو ليكون علماً من أعلام الشعر في أبين، وأخذ شعره يصفو ويرق، وأخذت مفرداته تغزل نسيجاً حولها في مكانها، فليس بإمكانك أن تنقل واحدة منها إلى مكان آخر، فهي في مكانها ناضجة وموحية وعذبة، ما يعني أن الشاعر يعمل في قصيدته بعد الانتهاء من كتابتها، ولنستمتع بالمفردات التي اختارها الشاعر لتكوين هذا المطلع الجميل لإحدى قصائده:
من محياك الهلي نور ابتسامة
يا ندى الخد نور لي طريقي
وصِرت متطمن موشح بالسلامة
وانجلى همي وقد انزاح ضيقي
قلبي طائر في السما مثل الحمامة
في لقاك فرحان بالحب الحقيقي
جابني لك شوق يصليني اضطرامه
ولمسة منك حانية أطفت حريقي

منتهى الرقة والعذوبة والصدق، الابتسامة ندى على الخد، وهي نور ينير الطريق، والقلب يرفرف مثل الحمامة أثناء اللقاء، لأنه لقاء بالحب الحقيقي، والشوق نار تضطرم لكنها نار من نوع آخر، تطفئها لمسة يد حانية.
وقد تقول إن هذه معانٍ غزلية مكررة عند بعض الشعراء، نعم. قد يكون ذلك، ولكن الهارب أعاد صياغتها بإحساسه هو، ورش عليها عطر شاعريته وروحه، ونسقها تنسيقاً فنياً بديعاً، فجاءت مشرقة أكثر، وأكثر عذوبة.

ثم لاحظ، إن الهارب ينتقي مفرداته من اللغة الوسط وليس من اللهجة الغارقة في المحلية، لأنه يكتب النص الغنائي، ويعلم أن الأغنية ليس لها حدود.
والهارب يوشك أن يكون شاعراً مرحلياً، فالمعجبون بشعره يزيد عددهم يوماً بعد يوم، ونصوصه التي تحولت الى أغنيات يزيد عددها يوماً بعد آخر، فعليه بالمثابرة والاجتهاد.

والهارب شاعر غزل، هكذا عرفته، ولم أعرف له ضروباً أخرى، لكني فشلت في تفسير إحساس أن أبطال نصوصه الغزلية كلهم فقراء، وهذا لا يشكل عائقاً للحب إلا إذا  كان أحدهما غنياً، وفي نص الهارب تشعر أن الفقر يجعل الحياة سعيدة، وهو ضروري في حياة الفقراء، فليس فيها ما ينشغلون به عن الحب، وقد يجد الأغنياء ما يشغلهم عن الحب وغير الحب، وتجد الفقراء أكثر وفاءً للحب، ولذلك يبدو الحب ضرورياً للحياة في نصوص الهارب.. فهل الهارب فقير؟ أو نشأ نشأة فقيرة؟ لا أدري. لكني لم أتخلص من دهشتي بعد من تحويله لكلمة (كسرة) من كلمة تقال في مطابخ الفقراء لكلمة شحنها بالعذوبة عندما وضعها في آخر هذا البيت الجميل ثم أتبعها بكلمة دوم:
في وصالك هناي حتى على كسرة ودوم
الفقر موجود في (كسرة ودوم) لكن السعادة موجودة أيضا بالوصال والحب.

وفي هذا النص الذي يتسم بالرقة والعذوبة وبالفقر كذلك، ما أجمل الإيقاع الراقص المتدحرج في هذا البيت، بل في القصيدة كلها:
معك بمشي.. معك بجري.. معك بجلس وقوم
وهو يعبر عن فرحة الشاعر العاشق باللقاء الذي ليس فيه غير بقايا الخبز والدوم، فالشاعر يرقص فرحاً وسعادة، وبالأصح (يشترح)، ربما بمشاركة المحبوب، لكنه لم يصرح بذلك، وإن جاز لنا أن نفهم ذلك من تكرار كلمة (معك) في البيت، على إيقاع قام بتوليفه من اختياره للمفردات وتنسيقها الجميل إلى ثلاث جمل مكررة تكراراً إيقاعياً، وكل جملة مصاغة بوزن (مفاعيلن) والجملة الرابعة على وزن (فعو)، فصار وزن البيت كله مأخوذ من البحر الوافر:
مفاعيلن مفاعيلن فعولن  ***  مفاعيلن مفاعيل فعولن.
وأنا لا أدعي أن الهارب عالم بالموسيقى وعلم العروض. وحقيقة لا أدري، ولكن هذا خلط جميل بين المفردات والإيقاع الموسيقي ليتمكن الجسد من الرقص بفرح وسعادة، قد وافى الشاعر، دون شك، من استماعه بإنصات للغناء والموسيقى والشعر وقراءته وحفظه، وللجو النفسي السعيد أثر في توليف هذا الإيقاع المرح، وهو يكتب القصيدة للقائه محبوبه لقاءً حافلاً بما يسعد العشاق، رغم تواضع العيش ورقة الحياة وبساطتها، ولذلك كان لقاء عظيماً.

مع تمنياتي لشاعر أبين الجميل علي عوض الهارب بمزيد من التقدم في الحياة وفي الشعر، وبمزيد من المثابرة ليصبح عن جدارة، وهذا خليق به، علماً من أعلام أبين في الشعر.
أحبك أربعة وعشرين ساعة كل يوم
بجنبك كنت أو مبعد.. ومتحمّل هموم
وباحبّك أنا لمّا.. قد الساعة تقوم
معك بمشي.. معك بجري.. معك بجلس وقوم
وفي السراء وفي الضراء.. وفي صحوة ونوم
وغيرك للأبد منّه.. فؤادي با يصوم
أحس في البعد ياعيني.. أنا بكاوي وحوم
وفي وصالك هناي حتى.. على كسرة ودوم
علومك أيش؟
أنا ودي من أخبارك علوم
.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى