الفنان عبدالكريم توفيق.. زرياب لحج الأسمر

> د. هشام محسن السقاف

> لا تكف البلابل عن الترانيم الساحرة من على أفنان روضة (الجنة) الافتراضية؛ بمعطيات الشوق ولواعجه، الحب وتأوهاته؛ والبين بتبريحاته.

لا تكف؟ نعم؛ لأن الصوت قد يخفت قليلا أو كثيراً، والضوء قد تحجبه غيمة ليلية فيبدو كجمرة أو خزرة من خزرات ذئب متربص في ظلام حالك.

إذاً الأرض لا تموت إلى ما لا نهاية، ولنا عبرة آلهية في "أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنّا يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه، قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير".

فالحياة دورات كما هي في المناخ فهي - أيضاً - في الإبداع، لكن بالقياس العمري لنا كبشر نستعجل إتيان الشيء من مخابئه وقبيل أوانه، بينما لا تستعجل الحياة بقوانينها الصارمة فعل ذلك بكسر إيقاع دوراتها الرتيب إرضاء لنا، فالمعطيات هنا زمانية بمقاس سيرورتها هي.

لذلك أقول وحتى لا تأخذني الاستغراقات في مفاهيم الحياة بعيداً عن متن ما أسعى إليه، إن رحيل بلبل الغناء الشادي زرياب لحج وعدن الأسمر عبدالكريم توفيق لا يعني نهاية المطاف.

مات عبدالكريم ولم يمت الغناء اللحجي؛ فسيرورته تظل رتقاً في جدار الزمان حتى وإن كفت بلابل الدوح عن الغناء الجديد.

الحقيقة المرة أن زمن المبدعين ولى إلى حين، لكن الحقيقة الثابتة - إيضاً - أن لحجاً ولادة، وعندما ينقاد الزمن لدورة إبداعية أخرى تنفض عن كواهلنا التيبس المحدق والجفاف الصلد، عندها تنزاح غمة وتصدح تراجيع شجية من وراء جدران البيوت الطينية وأزقة الحواري المتربة.

وحتى في هذا التصحر الموغل في حياتنا الثقافية أثناء عبورنا القسري بحقبة القحط هذه، تظل إشراقات الفن باعتباره نسقاً إنسانياً لا يصيبه الموات تأتي من سفر الغناء التأصيلي للقمندان، ومن تموجات التجديد المعجز لفضل محمد اللحجي، ومن قيثارة الخاطر اللحني الشجي لعبدالله هادي سبيت، وبراعة السهل الممتنع لصلاح ناصر كرد، واجتهادات محمد سعد صنعاني الموسيقية عابرة حدود الممكن اللحجي، والتموجات المحلقة لحنا وكلاما في سماوات الحوطة المحروسة وعدن الساحرة لأمراء الطرب العبادل: صالح مهدي، ومحسن بن أحمد مهدي، محسن صالح مهدي، وعبده عبدالكريم بحيث لا يخفى؛ ضمن أسرار المحروسة بالله أن سلطانها العبدلي كان نابهاً أديباً وفناناً بالسليقة "ولكن مثلي لا يذاع له سر" في بعض الأحيان، أو "حاشا علي ألف حاشا ما خرج المكنون)" دون أن يمنع ذلك القمندان من القول: "باذلح لك الغالي لما تقول لي بس". وسوف يستشف القارئ أن "الناس على دين ملوكها"، أو "إنما الناس بالملوك"، كما يقول المتنبي. فازدهر الغناء والموسيقى والطرب والرقص في لحج العبادل بينما يحرم ذلك في الجوار اليمني وقتذاك.

وإزاء واحد من أمراء الطرب يجتاز المحكي المباشر إلى التفتيش في ثنايا الحرف وما يخفي؛ هو الأديب صالح فقيه صاحب "يا ضارب الرمل" و "قال بوزيد"، و "روضة الخلان"، وفيها السبق البياني "طحس على رضوان"، و "قتلني والقضاء براه لأن الفعل ذي أجراه لا قارح ولا دخان" الذي لا تجده إلا عند اللحجي، وإن فتشت ديوان العرب من امرئ القيس إلى نزار قباني.

تعطي لحج بمعطيات الخصوبة والزراعة وبفرادة حكم سلطانها؛ الوافد إليها ميزة (التلحج) ليغدو (لحجيا) قحا، داخلا في نسيج الإبداع فيها لا مقلدا ولا محاكيا، ماسكا طرف ثوب الإبداع ناسجا بطريقته ما يؤصله في خانة مبدعيها الكبار.. كما هو الأديب الفيلسوف الشاعر صالح فقيه.

وفي الثنايا عبقرية التجديد الموسيقي فضل محمد اللحجي رائد الغناء اليمني كما أطلق عليه الفنان الكبير محمد محسن عطروش - أطال الله في عمره - وكلاهما الفقيه واللحجي (تلحيج) يكاد يكون (ملكيا أكثر من الملك).

إن رياح التغيير التي هبت على الربوع اللحجية بعد الحرب العالمية الثانية 1939-1945م بحقائق الاقتصاد والسياسة معا: زراعة القطن ومواقف السلطان الثائر علي عبدالكريم فضل التحررية قد انعكس مباشرة في دورة الغناء اللحجي الثانية بازدهار المسرح رغم تواضعه وتأسيس الفرق الموسيقية مثل الندوة اللحجية وندوة الجنوب والبحث عن أصوات جديدة تشبع الذائقة الفنية وتواكب مرحلة مغايرة لما سبق في سماتها ومضامينها دون أن تتنكر للمعلم الأول القمندان.

كان اكتشاف كوكبة من الأصوات الفتية الصغيرة حدثا فنيا بارزا في لحج وعدن على السواء بدءاً من النصف الثاني لعقد الخمسينيات من القرن الماضي مثل محمد صالح حمدون، وفضل كريدي، والعودي، ويسلم أحمد صالح، ومرزوق، وفيصل علوي، وعبدالكريم توفيق.. وغيرهم.

ساعدت الفرق الموسيقية في تقديمهم في الحفلات والمهرجانات المختلفة، واحتفى بهم الجمهور في الحوطة وعدن ولعبت إذاعة عدن دورا في ابقاء هذه الأصوات تحيا في الذاكرة الموسيقية الجمعية للناس حتى يومنا هذا.

وقد تعامل أساطين الطرب والغناء في ذلك الوقت أمثال عبدالله هادي سبيت، وفضل محمد، وصلاح ناصر كرد، ومحمد سعد صنعاني، والعبادل أمراء اللحن والشعر ممن أشرنا إليهم إلى جانب ما حفل به شعر سبيت، وصالح نصيب، وباجهل، والسلامي، ومفتاح، والصنعاني، تعامل كل هؤلاء مع مقدرات هؤلاء الفتية الصغار بمهنية عالية وبألحان تتناسب والطبقات الصوتية وقوتها أو انسيابيتها لدى هذا الفنان الصغير أو ذاك.

وكان لفقيدنا العزيز عبدالكريم توفيق دور محوري في ترجمة ألحان وكلمات كثير من أسياد تلك المرحلة إلى أغانٍ خالدة ظلت تواكب وتحيا في حنايا وقلب الملتقي على مدى نصف قرن من الزمان.

التحق عبدالكريم توفيق بالندوة اللحجية الموسيقية عام 1957م وقد وهبه الله "نعمة الصوت الجميل"، فغنى أغاني خالدة هي من صميم ما أبدعته لحج في دور غنائها بعد القمندان، مثل (لوعتي) من كلمات عبدالله سالم باجهل ولحن العملاق محمد سعد صنعاني الذي وجد ضآلته في أبعاد الصوت الساحر لتوفيق فشكلا ثنائيا متناغما، فجاءت (بالعيون السود) للشاعر عبدالخالق مفتاح، و(ردد التقبيل)، و(يا شاكي غرامك) للشاعر أحمد عباد الحسيني، و(باكشفه اللثام)، و(الحلم أصبح حقيقة)، وهي درر الصنعاني الذي لاءم حسه الفني المرهف وعنايته باللحن صوت عبدالكريم توفيق المتربي فنيا وصقلا في بيت الصنعاني الكبير.

كما شكل ثنائيا استثنائيا مع الأسطورة فضل محمد اللحجي لتخرج درر أخرى مثل: (يقول لي الليل توب)، و(يلوموني)، (يا قلبي الجريح)، و(بداية الحب نظرة)، وكلها من كلمات شاعر العاطفة المتأججة صالح نصيب، ومن كلمات الأمير صالح مهدي غنى عبدالكريم (يواعدني وينساني)، وهي من روائع فضل محمد التي ترجمها عبدالكريم توفيق إلى نغمات تطرب الإنسان وألجان أيضا إذا جاز ذلك.

كما غنى من لحن الأمير عبده عبدالكريم (يا ضارب الرمل)، وهي للكبير صالح فقيه و(إن خلف لي الخل وعدا)، الفصيحة من بنات لحن ونظم الأمير عبده عبدالكريم، و(أنا مظلوم)، من كلمات محمود علي السلامي، ولحن الأمير محسن بن أحمد مهدي.. وغير ذلك دفق نابض غزير لن نستطيع تقصيه في مثل هذا العجالة.

عبدالكريم توفيق ليس مؤديا وصوتا شجيا تغار منه البلابل؛ بل كان ضليعاً في صنع ذلك الملمح (القوس قزحي) الجميل لأغنية الطور الثاني في لحج، وكان صديق تلفزيون وإذاعة عدن المثابر فيهما بغير الغناء توضيح وكشف كثير من أسرار لحج الغنائية لمرحلة الازدهار المبهر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

وكان وجها مألوفا في الأوساط الأدبية والثقافية في عدن ولحج حتى لحظة وفاته.. رحمه الله رحمة واسعة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى