الأستاذ (السلي) ذلك القلب الرحيم!

> د. عبده يحيى الدباني

> محمد سعيد غالب (السلي)، كم هذا الاسم جميل، وكم هذا اللقب خفيف على اللسان وعلى الأذن وعلى القلب معاً!.

هذة الكلمة (السلي) كل يوم تتردد في أرجاء القرية عند الصغار والكبار، الرجال منهم والنساء. أحبوا هذا اللقب الذي صار اسماً كما أحبوا صاحبه، حتى صار كثير الدوران في كلامهم. فهذا ابن السلي، وتلك بنت السلي، وذاك منزل السلي، وذاك أخو السلي.. وهكذا تنسب الأشياء القربية منه إليه. وراح السلي، وقال السلي.. وهكذا صار (السلي) محوراً يدور حوله الحديث، لأنه عاش في الناس ومعهم ومنهم وإليهم.

ولد (السلي) في قرية القرب في أواخر الخمسينات من القرن الماضي. لعل ذلك كان عام 1957م أو 58م، ورحل من بيننا قبل أيام، عن عمر ناهز63 عاماً. وهذ متوسط العمر في هذه الأمة المحمدية، لقد تعمر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين جميعاً، رضي الله عنهم، 63 عاماً.
التحق بالمدرسة وقد تجاوز عمره العشر سنوات تقريباً، فأنا أذكره وهو شاب يافع يدرس في الصف الخامس الابتدائي، وأنا في الصف الأول في المدرسة نفسها التي بدأت الدراسة فيها في أواخر عام 1968م، تحت ظلال الأشجار.

وقد أطلق عليه هذا اللقلب وهو طالب في الابتدائية في مدرسة الرباط العريقة، التي مر على تأسيسها أكثر من خمسين عاماً.

لقد كان زميلاً وأخا حميماً لأخي الكبير، علي يحيى، وكان عندما يغيب أخي من المدرسة يمر علينا السلي في صباح اليوم الثاني فينادينا حتى نظهر جميعاً وننتبه لندائه فينطلق بقراءة الدرس الذي لم يحضره أخي بصوت مرتفع، يقرأه غيباً وهو يمشي. وهذا شكل طريف من المنافسة بين الطلاب، فيه إظهار السبق والتأثير على نفسية الزميل المنافس ليشد حيله ويعرف عاقبة غيابه.

أكمل السلي دراسته الابتدائية في مدرسة الرباط وانتقل إلى إعدادية الشهيد لبوزة في الحبيلين، ودرس هناك الصف الأول الإعدادي وبعدها عاد هو وزملاؤه وأكملوا الصف الثاني إعدادي في مدرسة الدهالكة في جبل حالمين. وبعد ذلك توقف السلي عن الدراسة نظراً لظروف تخص أسرته الفقيرة، بينما واصل كثير من زملائه المرحلة الإعدادية في الحبيلين وعدن.

مرت الأيام والسلي يحرث الأرض مع أبيه، فلا هو توظف ولا هو أكمل الدارسة ولا هو التحق بالجيش، ولأنه كان شاباً ذكياً ومؤدباً وكان يشارك في تعليم الكبار في القرية ضمن حملات محو الأمية وتعليم الكبار التي كانت تنظمها وترعاها دولة الجنوب، بسبب كل ذلك؛ فقد عين مدرساً في مدرسة الرباط في حدود1977م تقريباً، وقد فرحنا به كثيراً، نحن طلابه، فهو يذهب معنا صباحاً من القرية إلى المدرسة ويعود معنا ظهراً. وهو أول مدرس علمنا من أبناء قريتنا والقرى المجاورة، إلى جانب الأستاذ القدير سعد محسن صالح، بينما كان المعلمون الآخرون من حوطة لحج والوهط وطور الباحة، وغيرها، جزاهم الله عنا خير الجزاء.

كان السلي رجلاً هادئاً لا يتحدث كثيراً تجده كثيراً يسرح في التفكير والتأمل، ثم يخبرك بنتائج تأمله وتفكيره، كان يقرأ ما حوله في الطبيعة وفي الناس.
لم يكن فناناً ولا سلياً ولا شاعراً في ظاهره ولكني إخال عدداً من الشعراء يعيشون داخله صامتين متأملين. وها هو أحد أولاده قد برع في الشعر، اسمه عبدالله السلي، أتوقع له مستقبلاً مشرفاً في ميدان الشعر، خاصة إذا توسع في ثقافته وقراءاته في الأدب والشعر خاصة، في القديم والحديث، وغير ذلك من مجالات المعرفة.

كنا نشد السير ظهراً إلى منزل السلي مع أن منزله في أعلى القرية وبيوتنا بعيدة عنه، لكن هناك جاذبية تشدنا إليه فنذهب للمقيل عنده حتى يحل المساء، لأنه من الناس الذين تحس معهم أن الدنيا ما تزال بخير.

كان يحلو له أن يردد أقوال جده العبد الصالح، ثابت قاسم، الذي لم نكن نعرفه لا نحن ولا السلي ولكن سمعنا عنه أقوالاً، كان السلي أكثر حفظاً لها منا كأنما تعلق بتلك الروح الصوفية التي تمتع بها جده، الذي كان رجلاً طيباً صاحب صدقات وعبادة، وفلاحاً خيراً وكان يعظ الناس ويرشدهم، ويذكر أشياء سوف تحدث في المستقبل، ليس من باب التنجيم ولكن من باب فراسة المؤمن.

كانت أم السلي تناديه بمحمد، بينما الآخرون كلهم يسمونه السلي. أمه هذه كانت أماً لنا جميعاً بل كانت أماً للقرية كلها، فقد زودها الله تعالى من مشاعر الأمومة والرحمة ما يكفي عدداً من الأمهات، لم تكن تنطق إلا بالخير وحين تغضب من أحد أبنائها أو الآخرين كانت أقسى ما تدعو عليه قائلة: "اجعل لك خير"، بينما الأخريات من النساء عندما يغضبن يدعون عليك بالويل والثبور حتى يقشعر جلدك. كان اسمها سلمى ثم صارت عندنا سليمى وظلت برداً وسلاماً على أهل القرية جميعاً حتى توفاها الله. فعليها من الله سلام ورحمة.

في السنوات الأخيرة تتابعت على أستاذنا السلي الأمراض قبل الأوان. فمرة يتعرض لضعف حاد في النظر ومرة أخرى تنتابه جلطة متوسطة في الدماغ، ومرة يتعرض لحادث طريق. ولعل الله قد رحمه بهذه الصدمات المتوالية وأحب لقاءه.
فرحمة الله تعالى عليك معلمنا العريق وجزاك عنا خير ما يكون الجزاء، إنه سميع مجيب.

اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى