الخردة في عدن.. مصدر دخل الفقراء وتجارة بلا قيود

> تقرير/ فردوس العلمي/ هلا عمر

> حينما تصبح مكبات القمامة وجهة عمل..
منذ الصباح الباكر تراهم يتنقلون بأكياسهم الواسعة حتى ساعات المساء الأولى، والبعض منهم يعملون ليلاً تحت جنح الظلام حتى لا يراهم أحد.. يعملون دون كلل أو ملل متحملين مشقة المهمة ومخاطرها الصحية في ظل غياب أدوات وإجراءات السلامة والوقاية من فيروس كورونا وغيره من الأمراض والأوبئة. إنهم بائعو الخردة أطفال، شباب وكبار سن، رمتهم الظروف لاستخراج قوتهم اليومي من براميل القمامة بعد أن أغلقت في وجوههم فرص الحصول على عمل آخر فاتجهوا إلى عمل يومي شاق، ومهنة تستقطب من وجدوا أنفسهم على رصيف البطالة بسبب الحرب الدائرة وموجات النزوح الداخلية.

الأوضاع الراهنة في جميع مناطق البلاد دفعت بعدد من الناس إلى اعتماد مد اليد والشحاتة في الطرقات وجوار المساجد وأماكن التجمع للحصول على قوت اليوم، بينما فضل البعض التوجه إلى براميل القمامة بدلاً من قارعة الطريق وسؤال الناس.
فئة تقطعت بهم السبل، وكان البحث عن الخردة من بين أكوام القمامة ملاذهم لكسب ما تيسر، وتوفير متطلبات حياتهم المعيشية وأسرهم، فالحرب التي وسعت رقعة الفقر زادت أعداد العاملين في هذا المجال اضطراراً، على الرغْم من مردوده الضئيل مقابل الجهد الكبير الذي يبذلونه في البحث عن تجميع الخردة.
منتج يوم كامل من مخلفات القمامة
منتج يوم كامل من مخلفات القمامة

ويعمل بائعو الخردة بلا مكونات تنظم عملهم وتتبنى حقوقهم، بل يعملون بلا عقود عمل وتأمين صحي لحياتهم، خصوصاً أن عملهم مرتبط ببيئة غير صحية تتمثل بمكبات القمامة، ما يجعلهم عرضة للإصابة بالأمراض وللابتزاز من قبل التجار الذين يشترون الخردة بثمن بخس مبددين مجهودهم المضني.

وحسب تقارير رسمية للأمم المتحدة، فإن نسبة الفقر وصلت في اليمن إلى 75 % مقارنة بـ 47 % ما قبل الحرب. حيث فقد نحو مليون موظف مدني يعيلون نحو 6 ملايين فرد رواتبهم منذ ثلاث سنوات، كما وجد نحو 1.5 مليون عامل في الشركات والقطاع الخاص أنفسهم فجأة على رصيف البطالة مع توقف الكثير من الأعمال وتسريح عدد كبير من العاملين، الأمر الذي فاقم نسب الفقر والبطالة في اليمن وخلق أكبر أزمة إنسانية في العالم، حسب تصنيف الأمم المتحدة.
الأخوين علوش وساهر
الأخوين علوش وساهر

وفي خضم الصراع الدائر وارتفاع مؤشرات الفقر والبطالة، يحاول المواطنون ممن فقدوا أعمالهم وتشردوا من بيوتهم الانخراط في مسار الحياة القاسية التي أجبرتهم علي بيع الخردة.
"الأيام" التقت بعدد ممن امتهنوا بيع الخردة في عدن، لمعرفة الصعوبات التي تواجههم في ظل تبعات الحرب وارتفاع الأسعار وجائحة كورونا التي ألقت بظلالها على المنطقة، وخرجت بالحصيلة التالية:

"س. ع " تحمل مسؤولية أسرة برغم صغر سنه، كان يجوب في شوارع مديرية صيرة بجاري مثخن بقوارير البلاستيك وعُلب المشروبات الغازية، مجتهداً في دفع العجلة أمامه، وحين هممت بتصوره قال لي بفزع: "لو سمحتي لا تصورينا وتقهري أمي، فأمي لا تعلم ماذا أعمل.. لا توجعي قلب أمي".

أوقفتني دموع الطفل الذي لم يتجاوز عامه العاشر، طفل يتيم الأب يعيش مع أمه وثلاثة إخوة، حسب قوله، وحين سألته: لماذا لا يذهب إلى المدرسة؟ قال: "كنت أدرس لكن شعرت بالإحباط، لهذا تركت المدرسة واتجهت إلى سوق العمل، فالمدرسة تشعرنا بالضيق ولا جدوى من الدراسة فيها"، وتابع: "أهلي لا يعلمون ماذا كنت أعمل ولا يعلمون أني انتقل من برميل قمامة لآخر لجمع العلب لأخرج بقوت أسرتي اليومي".
لم يمنعه كبر السن من العمل في المجال
لم يمنعه كبر السن من العمل في المجال

ويعمل الطفل "س. ع" من السابعة صباحاً حتى الظهيرة، "أحصل في اليوم ما بين 400 و3000 ريال، وأحياناً 2000، اعطيها لأمي لتصرف علينا، ولما تسألني من فين حصلت الفلوس أقول لها إننا اشتغل، فابنك لا يشحت يا أمي".

"حرمان وبؤس"
علوش طفل في الثامنة من العمر، نازح مع أسرته من محافظة الحديدة، يقضي وقته بين برميل القمامة يلتقط منها عبوات بلاستيكي وحديد بوقت أقرانه من الأطفال يجلسون فيه على مقاعد الدراسة، علوش كان برفقة أخيه ساهر، وسألتهم هل تذهبون إلى المدرسة؟ فرد علوش قائلاً: "ما استطعنا ندخل المدرسة لأننا لا نمتلك شهادة ميلاد، نحن نازحين ومنزلنا في الحديدة احترق في الحرب".
منهمكين في العمل في محل خردوات بخور مكسر
منهمكين في العمل في محل خردوات بخور مكسر

علوش وساهر طفلان لا يعيان خطورة الأمراض المنتشرة ولا يجدان من يوعيهما، فالتوعية بخطورة الأمر هنا تعني حرمانهم من مصدر دخلهم الذي لا يفي بالمتطلبات الضرورة أصلاً، فحسب علوش، يباع الكيلو بـ 50 ريالاً وقال: "نروح الظهر ومعنا 2000 أو ألف وخمسمائة ريال".
وبينما ساهر في العاشرة من العمر كان صامتاً ينظر لأخيه، ويهز رأسه كأنه يشجعه على الحديث، سألت ساهر: هل تخاف من الأمراض؟، رد بهدوء "كل شيء بأمر الله لو مكتوب لي أمرض بمرض حتى لو كنت في المدرسة".
وأضاف: "هذا أكل عيشنا وما عندما وقت للتعليم، كل وقتي في براميل القمامة أبحث عن العلب لكي أبيعها".

"أذلتهم الحاجة"
سعيد تحدث بخجل العزيز، وكأنه اقترف شيئاً ما، وبسجيته وجّه سؤاله المبكي: "ماذا تريدون أن نعمل؟ لا أعمال ولا رواتب ولا يوجد هناك من يهتم بحالنا إذا فتح الله علينا بعمل آخر لتركنا التعب الشاق"، هذا ما قاله سعيد أحد العاملين في تجميع الخردة، حيث كان تساؤله موجعاً: من أين أصرف لو لم أعمل؟ ولا إجابة له.
أما سالم، فمنذ الصباح الباكر يجوب بأحد أزقة الشوارع يحمل كيساً كبيراً، ويرمى إليه بعض البلاستيك ليطلب الله فيهم، أخبرني بأنه لا يستطيع أن يعمل في الأشغال الأخرى، وهذا هو الحل الوحيد، ورغم صعوبته والعناء الذي يتكبده إلا أنه يمكنه من توفير جزء ضئيل من قوت أسرته اليومي.
ويقول أحد العاملين في مجال الخردة: إنه يمارس هذه المهنة لتغطية مصاريفه والمساعدة في توفير احتياجات عائلته، فهو يعيل أسرة كبيرة مكونة من ثمانية أشخاص يبحث في براميل القمامة عن قناني الماء البلاستيكية يجمعها ويبيعها لطمأنة أسرته المنتظرة له بما يسد جوعها.
محل خردة في منطقة البساتين
محل خردة في منطقة البساتين

"الحلم بالغناء"
رأيته داخل برميل القمامة، وكانت شمس الظهيرة في كبد السماء محرقة، وهو يتصبب عرقاً ويمسح بيده العرق من على جبينه، اقتربت منه فلما رآني توارى، ورجع بخطوة سريعة إلى الوراء ليقفز إلى خارج البرميل يمشي بخطوات سريعة. وفجأة توقف، وقال لي: "ليش تنظري لي؟"، لم ينتظر إجابة، وواصل حديثه: "أنا ابن ناس ومتعلم خريج ثانوية عامة لم أتمكن من دخول الجامعة، مات أبي وأنا في آخر سنة ثانوية.. لا تستغربي فأنا هنا أبحث عن حلم ربما يتحقق".

يقول عوض عن حلمه: "هناك حلم يراودني بأني أجد وسط براميل القمامة شيئاً ثميناً يغير من حالي، فالكثير يتخلون عن أشياء لا يعرفون قيمتها، ويعتبروها خردة، وكثير من أغنياء العالم كانت براميل القمامة طريقهم الأول للشهرة والغناء".

"مهنة من لا مهنة له"
ياسر مواطن لم يكتف هو فقط بجمع القناني من براميل القمامة، لكن جميع أفراد الأسرة يقومون بهذا العمل، "أنا رجل فقير ولدي أسرة مكونة من ثمانية أفراد، كلنا نجمع الخردة من القمامة ونبيعها للتجار، ونكسب قوت يومنا أنا وأولادي، صحيح أنه عمل شاق ومتعب ومحصوله قليل مقارنة بمشقته، لكن هذا هو الحاصل معنا لنكسب لقمة العيش".
محمد حميد يُوسُف
محمد حميد يُوسُف

أما سمير فبعد أن تعب في البحث عن فرصة عمل اتجه للبحث عن الخردة وبيعها، ويرى أن تزايد أعداد العاملين في جمع الخردة أضعف الحركة، "كنا نجمع عدداً كبيراً من الخردة، ونبيعها للتجار، أما الآن التجار يرفضون شراء كيس واحد منا، لأن أحواشهم مكدسة بالخردة".
أحد الباعة، رفض ذكر اسمه، وقال: "خلونا نطلب الله بصمت الدولة لم توفر لنا عملاً، ولا تعليماً مثل الناس ولا صحة، نحن مشردين من بيوتنا والله أن الموت أفضل لنا من حياة القرف التي نعيشها".
وأضاف: "كل هذا التعب من برميل قمامة إلى آخر، ويشتري منا التجار الكيلو بـ 50 ريالاً فقط وهم يبيعونه للتجار الكبار بمبلغ محترم، يعني نحن نشقى ونتعب وهم يأخذونها على الجاهز وتوصل إلى الصين وتباع بسعر أعلى، ونحن من يتعب ويكدح ولا في من يحمينا من الجشع ".

"الفائدة 200 ريال"
محمد حميد يوسف صاحب محل خردة في مديرية خور مكسر يقول: "نحن نشتري الخردة من الباعة المتجولين، كل شيء، نحاس معادن وبلاستيك وحديد وأي شيء تألف، وطبعاً الأغلى سعراً النحاس، ثم نعمل على شحنها للشركات، وهي تقوم بشحنها بحاويات لخارج اليمن، وهذه الشركات بدورها تعمل على إعادة تدوير النفايات وإعادة تصنيعها وبيعها من جديد".
من خلف البراميل يبحث عن قوت يومه
من خلف البراميل يبحث عن قوت يومه

وقال: "لا ندري كم تستفيد هذه الشركات، لكن نحن كأصحاب محال لبيع الخردة نشتري الكيلو النحاس بـ 4500 ريال، ونبيعه بـ 4700، وهذا الشغل نستفيد منه في البيع، مثلاً المكيفات التي ممكن إعادة إصلاحها وتشغيلها، حيث يعد بيعها بأسعار معقولة".

"نستفيد من كل كليو نحاس 200 ريال، وعلب البلاستيك نشتريها بـ 70 ريالاً، ونبيعها بـ 80 ريالاً، وذلك بعد أن نشتريها من أصحاب الجواري ونفصلها ونرتبها قبل إعادة بيعها"، وقال عبد العزيز طاهر الذي امتهن المتاجرة بالخردة منذ سنتين، ولديه محل لتجميعها، وأضاف: "شغلتنا تمشي بالبركة، علينا إيجارات وفواتير كهرباء، ومع ذلك، نقول الحمد لله، فعلى الأقل نحن نجد ما يكفينا ولا نمد أيدينا للآخرين، نعمل بجد وربك يكافئنا".

عبدالعزيز طاهر
عبدالعزيز طاهر
وأصر عبدالعزيز على الإيضاح أن الشغل الحلال ليس عيباً حتى وإن كان بين القمامة، ناصحاً الشباب العاطلين بالبحث عن لقمة بالحلال، وختم: "إذا جلست محد بيمد لك لقمة".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى