جوارديولا وتوخيل.. الابتكار في قبضة الواقعية

> رؤية نقدية كتبها/ محمد العولقي

> توقعت تحليلاً عملياً دقيقاً لنهائي دوري أبطال أوروبا عبر أستوديو ضم من كل زوجين اثنين، ربما لتسير سفينة تحليل (بي إن سبورت) بغير عجز، لكن أملي خاب في النهاية، فقد شاهدت منتقدين منفعلين عوضاً عن مشاهدة محللين هادئين وقورين واقعيين يحللون المباراة بخفة وليس بفهلوة إنشائية لا تسمن ولا تغني من جوع.

مع ظهور قائمة لاعبي مانشستر سيتي قبل نحو ساعة على انطلاق المباراة النهائية في مدينة بورتو البرتغالية أيقنت أن مانشستر سيتي في أزمة حقيقية، وإن شئتم الدقة ورطة تكتيكية لم تجد التبرير الكافي من محللي (بي إن سبورت)، أستثني من ذلك التخبط القائم على خفة ظل المحللين البروفيسور آرسين فينجر الذي كان يرسل مخاوفه التكتيكية على استحياء، حتى لا يبدو وكأنه يغرد خارج سرب بقية المحللين الانطباعيين.

تغنى المحللون بعبقرية بيب جوارديولا بأساليب إنشائية بنيت على عاطفة مسبقة وأرقام حفرت تاريخاً مبجلاً للإسباني المتمرد على كلاسيكيات الكرة القديمة، اكتسبها من سطوة فريقه على مقاليد الكرة الإنجليزية وبفارق كبير عن منافسه في النهائي تشيلسي اللندني، بمعنى: انجر المحللون إلى نتائج تراكمية مسبقة بنوا عليها جل تصوراتهم، بدأ لي وكأنهم يريدون إقناعناً عاطفياً أن (بيب) رجل الابتكارات لا يخسر في مثل هذه المواقف، مرة أخرى هذا التصور في نهائي مضطرب حسابياً خلق أزمة وعي عند المشاهدين، أزمة جعلت التحليل في واد و النتيجة في واد آخر.

لم يقل أحدهم قبل المباراة ولو من باب الذكرى إن جوارديولا المبتكر في الأوقات غير المناسبة لا يتوب ولا يتعلم، فقد اكتوى مراراً من ابتكاراته وشرب نخب الانكسارات الأوروبية ثلاث مرات متتالية أمام توتنهام ثم ليون الفرنسي وأخيرا تشيلسي، وفي الثلاث المحاولات خسر (البيبي دول) وخرج من المشهد بلا خفي حنين.
كنت قد عطلت جميع حواسي العاطفية، وفقط سمحت لحدسي أن يتحكم في إفرازات هرمون الأدرينالين، وضعت تصوراتي وبنيت رأيي الفني من الحمولة البشرية نفسها، فلم يكن يهمني أسلوب (بيب) كثيراً، لأن الواضحات من الفاضحات دقت في رأسي جرس إنذار: (بيب) يلقي بفريقه حطباً في محرقة تشيلسي.

مقارنة بصرية خاطفة بين تشكيلة الثعلب الألماني توماس روخيل وحمولة بيب جوارديولا ستتكشف أخطاء حسابية وأخرى بشرية وقع فيها الثاني في مباراة تكتيكية تعتمد على النقلة الشطرنجية الرهيبة كش ملك، لا أحد يعرف قدرات فريق (بيب) سوى تشيلسي فقط، لقد غابت هذه البديهية عن ذهن (بيب)، فقدم لنا عجينة استعصت على العجان نفسه، والسبب تلك التغييرات غير المفهومة في الحمولة البشرية وإستراتيجية نظام اللعب.

تؤكل الكتف من العمق ولا تؤكل من الرواقين، فلسفة لعب بسيطة سهلة تعامل معها توخيل بواقعية، وتجاهلها بيب لانشغاله بابتكار جديد يهزم الوقت والمحيط، وهذا بالطبع جنون ومستحيل لأن التكتيك عندما يكون منطلقاً ومستقراً لشاكلة قوامها التدوير والاسترجاع لا بد من أن يراعي أولاً الفوارق الذهنية والحوافز المعنوية وأدوات الخصم.

كان جوارديولا يراهن على نقاط قوة فريقه، ولم يدرس نقاط قوة خصمه، وهذا خطأ فادح في معالجة آلية الاختلالات التي ظهرت بوادرها منذ الاعتماد على وسط كالقزاح المائل على حساب ضوابط العمق و صرامته، لقد ألغى (بيب) الانضباط تماماً وأدخل فريقه في أتون عراك تكتيكي بدني وذهني، وهذا يخالف لاتينية لاعبي مانشستر سيتي، وهو أمر يفسر كيف خسر لاعبو السيتي الثنائيات، وكيف قلت حيلتهم أمام فريق يضغط على أنفاس البناء نفسه، وكيف خسروا لعبة المصاقرة السيكولوجية مبكراً جداً.

عندما تمعنت في تركيبة الوسط اكتشفت لعبة بيب جوارديولا في ثانية، فهل كان يظن أن خصمه الألماني غبي بحيث لا يكتشف نقطة الابتكار التي راهن عليها لتكسير رابطة فريق قوي من الناحية الدفاعية؟، وهل يمكن لفريق يلغي العمق ويناوش على الرواقين أن يفتت الحصانة التكتيكية لفريق دفاعه من فولاذ ووسطه من أسمنت مسلح؟

استغربت من أن (بيب) حقن لاتينية فريقه بالتدوير الكثير للكرة، هذا يعني أنه كان يتصور أن توخيل سيدعه يحرك بيادق وسطه دون ضغط، دون عنف، ودون رغبة في تكسير الرتم.
لم تكن مشكلة (بيب) في الأسلوب، بل في الصياغة البشرية لفريقه، وفي لامبالاته بخصمه، وفي عناده، رغم أنه لدغ من جحره مرتين في كأس إنجلترا وفي البريمر ليج.

بنى (بيب) ابتكار الأروقة على قدرة رحيم ستيرلنج في اليسار وفنيات رياض محرز في اليمين، أوعز إليهما البقاء كنفاثتين لإكمال اللمسة الأخيرة، لكن أين العمق الذي تكسب منه مثل هذه المباراة الشطرنجية؟ أين الوسط المتنوع القادر على خلق كثافة العمق وتحرير محرز وستيرلنج من الضغط العالي والرقابة اللصيقة (مان تو مان)؟
لقد ألغى (بيب) العمق تماماً وسلمه على طبق من ذهب لخط وسط تشيلي الأكثر حركة وديناميكية، والأكثر توازناً وواقعية تكتيكية، ولم يكن توخيل ليحتاج أكثر من تحرير نجولو كانتي ليقوم بدور مساحة الزجاج من الخلف إلى الأمام والعكس، وقد فعل ذلك باقتدار دون مضايقة.

أخطأ (بيب) في نهجه لأنه بناه على معطيات فريقه لا على معطيات خصمه، وعندما أشرك جوندوجان إلى جوار برناندو سيلفا في العمق قلت لنفسي: لقد سقط المبتكر في غلطة الشاطر، ولقد حدث ما توقعه حدسي وتابعوا.

الواقعية في كرة القدم تتعارض أحيانا مع الابتكار، منطقيا لا يمكنه أن تتحكم في التوازن ما لم يكن هيكلك التنظيمي مرتب و تأطيرك النفسي في أعلى مستوياته، وما لم تضع في حسبانك الجزئيات الصغيرة التي تصنع الفارق في مثل هذا النوع من المباريات، وهي جزئيات يصعب التحكم بها دون هوية واضحة وبناء فني يكرس مفهوم الحصانة التكتيكية.

إذا كان تحريك الكرة عند (بيب) يتم تدريجيا من وسط الميدان حتى إنهاء العمليات، فإن مانشستر سيتي افتقد كل المرونة التكتيكية و كل النهج، لان الإيقاع المتقطع الذي يعتمد كليا على فلسفة الاستحواذ و الاسترجاع لم يخدم التغييرات التي أجراها (بيب)، فعمى طريقة لعب فريقه بحجة تكحيلها.

كان الطرح السلبي ككل في خيارات (بيب) لا في الأسلوب نفسه، لقد آثر بغرابة أن يبتكر نظرية الرواق الثابت فلعب بمحرز وستيرلنج جناحين ثابتين، مع العلم أن (بيب) لم يفعل هذا طوال الموسم، لطالما تبنى (بيب) فلسفة المهاجم المزور، ولطالما ساعده الرصيد البشري في تحريك هذا المفهوم الذي لا يمكن أن يقاس عليه مع فريق آخر، لكن تكتيك (بيب) في النهائي عرى هذا المفهوم، عراه تماماً دون سابق إنذار، وجلس في الشوط الثاني يتفرج على لعبة التعري التكتيكية دون حلول.

عندما كان السيتي يسجل الأهداف في غياب المهاجم الثبات (رأس الحربة في المصطلح القديم)، فلأن (بيب) كان يحتال على الآخرين تكتيكيا، محرز يتحرك قطرياً عكس اتجاهه تماماً، ونفس الشيء بالنسبة لستيرلنج أو سيلفا أو فودين، لكن هذا الخيار لا يمكن أن يمر مرور الكرام على مدرب ألماني يعرف فعلاً كيف يتبنى سياسة الردع المباشر إما بالترهيب أو بالترغيب.

التضارب الكبير في التشكيل والتموضعات الثابتة جاء فعلاً غريباً، لأنني توقعت ألا يغير (بيب) في تكتيكه ولا يمس إطاره البشري المنسجم والمتناغم إلا عند الضرورة التكتيكية القصوى، الرؤية السطحية لمحللي (بي إن سبورت) وصفت (بيب) بعد خراب مالطا أنه مدرب طائش، وهذا وصف مشجعين لا وصف محللين، وأفضل صفة يمكن أن تطلق على (بيب) في ليلة سقوطه الأوروبي أنه مدرب جريء يطبق ابتكاراته ولو كان في فيها هلاكه.

الكباتن محمد أبو تريكة محلل فني خلوق يجيد رص الكلمات في تشريح الحدث، لكنه يكتفي من باطن التحليل بالقشور، ولو لم يكن الأمر كذلك لما أغلق المفكرة التكتيكية ولما صب جام وزبدة تركيزه على الميدالية الفضية التي احتفظ بها (بيب) ولم يلق بها في برميل القمامة، لقد تساءل أبو تريكة عن أسباب ظهور السيتي بهذا الوجه الشاحب في النهائي، وكان يفترض أن نسأله نحن أشباه المحللين ونستأنس بقراءته الفنية كمحلل لا يمكن أن تسعفه شعبيته ونبوغه كلاعب سابق لإقناع المشاهدين بكلام يجمع بين الطرافة واللطافة.

حسنا.. في كل الأحوال تجاهل (بيب) في مشروع ابتكاره لنظرية الأروقة زراعة خط وسط متنوع يجمع بين أناقة التيكي تاكا وصرامة الالتحام الأنجلوساكسوني، دائماً كان لديه رودري في وسط الملعب، أو حتى فرناندينيو كمحور هدام، ولطالما كان رودري تحديداً يمثل حماية لإيقاع اللعب من العمق، لأنه يمنح الفريق مرونة تبادل المراكز وخلق كثافة في عمق الهجوم، لكن (بيب) ضرب بكل هذا عرض الحائط مصراً على ابتكار ثنائية هشة (سيلفا وجوندوجان) ابتلعها طوفان كانتي ومونتي وجرجينيو.

حقيقة، قوة السيتي كانت دائماً في حضوره الذهني، وهو عندما يركب المباراة من أول دقيقة دون مضايقات تكون قريحة اللاعبين في القمة، فهل افتقد لاعبو السيتي اللياقة النفسية أمام خصم يعرف عنه الشاردة قبل الواردة؟

دون شك نعم، لقد افتقد لاعبو السيتي اللياقة النفسية مبكراً، وهو عامل لم يحسب له (بيب) حساباً، وهذا ما جعل الفريق يخسر ذهنياً أمام فريق راهن على رصيده البدني وقوته الذهنية، شاهدنا السيتي تائهاً بلا حلول، تجلى ذلك في انعدام شبه كامل للعراكية وصرامة اللياقة وفي توهان اللاعبين وعدم قدرتهم على مجاراة لاعبي تشيلسي في تركيزهم على تسيير المباراة كما يرغبون.

أعود مجدداً لطرق حقيقة أن (بيب) خسر عمق الملعب فنياً وتكتيكياً، لأن لا جوندوجان يجيد التغطية والرقابة اللصيقة، ولا سيلفا يجيد الواجبات الدفاعية، لم تكن هناك مطبات أو نقاط جمركة في وسط ميدان السيتي، لهذا كان قلبا الدفاع دياز وستونز يتقدمان كثيراً لتغطية ثغرة العمق، من هنا ضرب توخيل ضربة معلم من جملة أنجلوساكسونية انتهت بتمريرة في عمق دفاع السيتي من مونت إلى الألماني الشاب كاي هافيرز الذي زرع هدف البطولة دون عناء بعد مراوغة مثالية لحارس السيتي.

وإذا كان (بيب) يسخر دائماً من الاعتماد على رأس حربة صريح لأنه كان يعتمد على رواقين متحركين يخلقان العمق للقادمين من الخلف، فإن السيتي افتقد هذه الخاصية مع تغيير التكتيك والاعتماد على وسط ميدان غير متناغم لأول مرة، وحتى عندما عاد (بيب) إلى صوابه دافعاً بمهاجمين في العمق أجويرو وجيسوس كان خط الوسط مع خروج المبدع كيفن ديبروين مصاباً قد تلاشى مثل خيط دخان أمام فريق خاض النهائي بحنكة مدربه الألماني توخيل مستخدماً مهاجماً قارا (وارنر) ومن خلفه الإعصار كاي هافيرز.

كان الفارق بين تشيلسي ومانشستر سيتي يكمن في عقلية المدربين، ألماني واقعي بنى طريقة لعبه على نقاط قوة خصمه، وإسباني شحذ حواسه في ابتكار جديد دون قراءة نقاط قوة وضعف خصمه.

لعب تشيلسي بشخصية تكتيكية واضحة فيها الكثير من دهاء مدربه توخيل، فقد قسم توخيل المباراة إلى مراحل، وهذا دليل على أنه كان يعرف ماذا يريد من المباراة؟، لعب بدهاء تكتيكي ماكر وصارم، يموت إيقاع اللعب عند الحاجة، ويرفع النسق عند الضرورة، يخدر ثم يباغت بكل الالوان دون أن يمس البناء التكتيكي أو يتلاعب بهوية فريقه كما فعل (بيب)، وما كان لطريقة توخيل أن تنجح أمام فريق رمم واجهته لأجل الظفر بدوري الأبطال بمليار دولار، لولا سيد الوسط الكاسحة البشرية نجولو كانتي، اللاعب الذي يؤدي مهاماً متضاربة في نفس واحد، تجده لص يسرق الكرات ويحييها، ثم تجده يخرب بناء السيتي ويجعله كعصف مأكول، وتجده في الهجوم إما ممرراً أو مكملاً للهجمة، لاعب وسط متعدد المهام صادر وسط ميدان السيتي وتحكم جيداً في كل النسق بدهاء يحسد عليه حقاً.

لقد صدق حدسي عندما كتبت عبارة اختزلت سباق النهائي قبل أوانه وأعطت انطباعاً بأن بيب جوارديولا سيأكل في نفس اليوم الذي أكل فيه الثور الأبيض: لو كنت أمتلك القدرة على اختراع مدرب يزعج بيب جوارديولا ويقض مضجعه في الليلة الكبيرة، فربما كان هذا المدرب هو توماس توخيل المدرب الواقعي الذي يعرف كيف ومن أين تؤكل الكتف؟.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى