تمثل العلاقة بين الحق والقوة علاقة بين كفتى التوازن في آلية عمل الميزان. وبالتناغم بين الكفتين يتحقق التوازن الذي ينتج عنه إحقاق الحق وانتصار العدالة.
والحديث عن الكفتين هو حديث عن وجهين : وجه الحق المحدد سلفًا ووجه القوة التي ينبغي إتمام بنائها لترقى إلى مستوى إحقاق الحق، وتحقيق العدالة لتمهد هذه المعادلة النظرية لفكرة الحق والقوة والعدالة في التكوين البنائي للمشكلة القائمة بين شعبي الجنوب والشمال في الحالة اليمنية.
والحديث عن الشعبين في الحالة اليمنية ليس إلا إقرارًا بالقانون الإلهي الذي خلق الناس وجعلهم في شعوب، والحالة القائمة تمثل جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الإنساني يسري على شعبها ما يسري على شعوب العالم كله. نظام وضع شرعته الخالق وأثمره المسار العام للتاريخ الإنساني، وقوننته القوانين الوضعية التي صاغها الإنسان. نحن البشر لا نملك حق نقضه أو تغييره، بل واجب علينا طاعته والامتثال له فحسب. فالحق سنة الخالق وواجب علينا طاعته والامتثال له، ما يعني أسبقية الحق وبعدية القانون.
والقانون إذا لم يكن تجسيدًا للحق تنتفي عنه صفة القانون و طاعته ليست ملزمة.
البناء الإنساني العالمي بمستوياته الثلاثة (الشعوب والأمم والمستوى الجامع للعالم الإنساني) مسؤول عن إحقاق الحق وبناء القوة اللازمة لخلق توازن يفرض العدالة على المستوى الوطني (الشعوب) وعلى المستوى الإقليمي (الأمم) وعلى المستوى الدولي (العلاقة بين الأمم والنظام الدولي).
إن حكمة الخالق عز وجل من ربط الخلق بالتسوية هي تيسير العلاقة بين الناس، في وجودهم وفي تحقيق الوظائف المناطة بهم. "فالخلق هو الإيجاد" بمعنى أن خلق الناس هو إيجادهم" وجعلهم في شعوب وأمم) هي التسوية.
وجدت الأرض ووجد عليها الإنسان، وأودع الله فيها كل أسباب الوجود والبقاء الإنساني وسخر كل ذلك للإنسانية وهذه نعمة الله الكبرى التي أنعم بها على الناس، وحتى لا تتحول هذه النعمة إلى نقمة كان لا بد أن يتحدد اقتسام الحق بين الناس، فتشعبت الإنسانية إلى شعوب، والشعوب ليست خارج المكان والزمان، فأصبح لكل شعب جغرافيته بحدود يفرضها توازن القوى بين الشعوب.
بموجب هذا التشعب والاقتسام تعيين حق كل شعب في الو جود والبقاء. ولتثبيت ذلك ظهر التمايز في الهويات بين الشعوب وتحددت حدود سيادة كل شعب على أرضه وحدود قراره السيادي. ووظيفة الحلقات الثلاث في البناء الهرمي الإنساني تأمين ثوابت حق الوجود والبقاء الإنساني بكل مكوناتهم من شعوب وأمم، وصراعات البشر مع بعضهم عبر كل الأزمنة والعصور ليس إلا صراع من أجل الوجود والبقاء وتأمين أسبابه.
إذا کانت الشعوب والأمم واتحادات الأمم تمثل الوجه الخارجي لتوازن البناء الإنساني العالمي، فإن له وجهه الداخلي؛ فالحلقة الأولى المتمثلة بالشعوب لها بنيانها الداخلي يتألف من ثلاثية الشعب والمجتمع والسلطة التي تعبر عن ثلاثية الحق والقوة والعدالة. الشعب مفهوم وجودي يجمع بين الأرض والإنسان ويعبر عن الحق، فيما المجتمع مفهوم وظيفي معني ببناء القوة اللازمة لإحقاق الحق، والسلطة مفهوم وظيفي أيضًا معني بإدارة العلاقة بين الحق والقوة (بين الشعب والمجتمع) وتحقيق التناغم بينهما بغية تحقيق العدالة.
لكل شعب ثلاثة هياكل بنيوية الهيكل البنيوي الجغرافي الإداري، الهيكل البنيوي الاجتماعي بشقيه الطبيعي والمدني، وفي أعلى الهرم الهيكل السياسي للسلطة، تحقق الهياكل البنيوية الثلاثة التوازن الأفقي بين المكونات الجغرافية الإدارية وبناء الشراكة بينهما في الهياكل الاجتماعية والسياسية (التوازن الرأسي). وتؤلف عددًا من الشعوب التي تجمعها علاقات التعاون والتكامل الهيكل البنيوي للأمة، وتحقق توازنها الداخلي واستقرارها.
علي سبيل المثال تؤلف الشعوب العربية بمجموعها ومن بينها شعبا الدولتين في جنوب الجزيرة العربية (اليمن) حلقات الهيكل البنيوي للأمة العربية، تجمعها علاقات التعاون والتكامل وتنتج قوة الأمة القادرة على خلق توازن مع الأمم الأخرى، يحمي أراضيها وشعوبها وثرواتها وكل أسباب مجدها. وبالتوازن بين الأمم يتحقق إحقاق الحق وفرض العدالة على المستوى الإنساني العالمي.
وبناءً على ما تقدم يظهر على نحو واضح أن التوازن بشقيه الداخلي والخارجي، يبنى على المستويات الثلاثة متدرجًا من الأصغر إلى التوازن الأكبر. فالتوازن الداخلي داخل كل شعب يؤمن استقراره و يؤسس للتوازن بين الشعوب داخل كل أمة ويحقق استقرارها، وهذا الأخير يؤسس للتوازن بين الأمم ويتحقق بفضله الاستقرار الدولي وتحقيق العدالة على امتداد العالم كله، ويظهر هنا الترابط بين الكل العالمي وأجزائه.
يكشف هذا الترابط عن حقيقة أن القضية الماثلة أمامنا هي قضية وطنية تخص شعب الجنوب، قضية هويته الوطنية المستقلة قضية حقه في السيادة الكاملة على أرضه وحقه في تقرير مصيره (قضية دولته الوطنية). الأمر نفسه ينطبق على شعب الشمال ودولته، وهي أيضًا قضية إقليمية تخص النظام الإقليمي العربي بوصف الشعبين و دولتيهما أجزاء في النظام الإقليمي العربي، ويحكمهما الترابط بين الجزئي والكلي، فما يحدث في الأجزاء يمتد تأثيره إلى الأمة، ويؤثر بصورة مباشرة على استقرارها، وجعلها حلقة ضعيفة في التوازن مع الأمم الأخرى. وهي بالمعنى الثالث قضية عالمية، فالعالم بمستوياته الثلاثة الوطني، الإقليمي والدولي، محكوم بقانون واحد هو القانون الدولي الإنساني، الذي يقر بالهويات المستقلة للشعوب وسيادة كل شعب على أرضه وبحقه في تقرير مصيره. وتمثل هذه المبادئ الثلاثة المضمون العام للقانون الدولي والأعمدة التي يقوم عليها النظام الدولي برمته، وحين ينتهك القانون الولي ومبادئه في أي جزء من أجزاء البناء العالمي ينعكس بشكل سلبي على بقية الأجزاء وعلى الكل العالمي.
ذلك هو المسار العام للحق والقانون الذي تقوم على شرعية أوجدها الخالق عز وجل تتمثل بالشعوب واقتسام الأرض بينها، وتاریخ إنساني أفضى على بناء الأمم المعنية ببناء القوة اللازمة لإحقاق الحق وفرض العدالة على مستوى الشعوب المنضوية في إطار كل أمة، وعلى مستوى الكل الإنساني، فالأمم تمثل حلقة الوسط بين الشعوب والكل الإنساني ومؤسساته الشرعية، فهي بذلك تمثل لحظة القوة في الهرم الإنساني، وظيفتها إحقاق الحق لكل الشعوب وتحقيق العدالة على المستوى الدولي.
في العقود الماضية ضلت الإنسانية طريق الحق والقانون وسارت في مسار المعتقدات الإيديولوجية الخاطئة على اختلافها، فحدثت كارثة التصادم والصراع بين المسارين. وكان الشعبان والدولتان في الحالة اليمنية من أولى ضحايا هذا التصادم. حيث صممت الوحدة المغلفة بأغلفة أيديولوجية زائفة لتكون عبوة الانفجار الكبير المراد له تقويض الشعبين، وإسقاط دولتيهما وإدخالهما في فوضى الصراعات والحروب التي بدأت في مايو 1990 ولم تنته إلى اليوم.
ففي هذا الانفجار (انفجار الوحدة) جرى الإجهاز على الهوية الوطنية المستقلة لكلا الشعبين، وأسقطت سيادة كل منهما على أرضه وحقه في تقرير مصيره، وكانت بحق ضربة لمبادئ القانون الدولي، قوض فيها الحق وأهدرت العدالة ومن ثم انهیار دراماتيكي للأمن والاستقرار المحلي والإقليمي والدولي في هذه المنطقة من العالم.
وبفعل هذا الخروج الأيديولوجي عن الحق والقانون نشأة قضية شعب الجنوب. لقد كان خروج عن إرادة الخالق الذي جعل البشرية في شعوب لاقتسام الحق بينها في السيادة على الأرض، خروج عن الفطرة، خروج عن سنن وقوانين الطبيعة خروج عن المبادئ التي تحكم النظام الدولي، والاتحادات بين شعوب العالم ودولة لا تلغي هذه الحقوق والسنن والقوانين الحافظة لها، بل تأتي للدفاع عنها وتحدث عند الاستشعار أن هناك خطرًا يهددها.
كل ذلك يؤكد سلامة الموقف الذي اتخذه شعب الجنوب في رفض ومواجهة هذا المسار الكارثي، ووضع نهاية لاستمراره والعودة إلى المسار الطبيعي - مسار الحق والقانون المتناغم مع إرادة الخالق ومع إرادة الشعب وإرادة القانون الدولي.
الشعوب بوصفها تجسيد للحق واقتسام الحق بين الناس فهي ثابتة بثبات الحق، فخلق الناس تم اقترانه في جعلهم في شعوب. وهذا أمر إلهي لا يحق للبشر العبث فيه بالتغيير أو التعديل. حقائق التاريخ الإنساني تبين بالقطع أن الشعوب لا تتنازل عن حقها في أرضها بمحض إرادتها، لأن في الأرض توجد أسباب حياتها ولا يوجد في هذا العالم من يتنازل عن حقه في الحياة، وتكشف حقائق التاريخ أيضًا أن الخروج عن مسارات الحق وتقويض العدالة تأتي من الحلقات المسؤولة عن بناء القوة وتحقيق العدالة، حلقات النظام الإقليمي للأمة والنظام الدولي للإنسانية ومؤسساتها الشرعية، بوصف الأمة ومؤسسات الشرعية الدولية هي المعنية بحماية القانون الدولي وحماية مبادئ النظام الدولي.
في هذا السياق تتكشف مشروعية الأدوار التي ينبغي أن تتولاها الأمة العربية والنظام الدولي في مواقفهما من الحالة اليمنية عامة، وقضية شعب الجنوب على وجه خاص أو عدم مشروعيتها.
الأمر محكوم بضبط العلاقة بين الحق القوة والعدالة والهياكل البنيوية المعبرة عنها المتمثلة بالشعب والأمة والشرعية الدولية، فالأدوار الإقليمية والدولية وتدخلاتها في حل القضايا التي تشكل مضمون الحالة اليمنية ليست مطلقة اليد، بل محكومة بالقانون الدولي ومبادئ احترام الهوية الوطنية المستقلة للشعبين (طرفي الأزمة) وحقوق كل منهما في السيادة على أرضه وحقه في تقرير مصيره.
لا شرعية هنا غير شرعية الحق التي تتجسد على أرض الواقع بشرعية الشعبين وشرعية حقوقهما الوطنية الثابتة، ولا تشريع قانوني محلي أو إقليمي أو دولي غير التشريع الذي يتمتع بمضمون داخلي مستوعب لشرعية الحق ومجسد لها، قائم على تثبيت واحترام مبادئ الهوية الوطنية المستقلة للشعوب، وحق كل شعب في السيادة الكاملة على أرضه وحقه في تقرير مصيره، ولا مشروعية لأي مؤسسات أو هيئات تنفيذية أو قرارات أو مواقف وبيانات ليست مكرسة لأجل إحقاق الحق وتنفيذ القانون . هذا هو الإطار المرجعي للتعامل مع قضية شعب الجنوب ومع الحالة اليمنية عمومًا.
إن شعب الجنوب والأمة العربية والكل الإنساني بمؤسساته الشرعية حلقات ثلاث تتكامل مع بعضها لوضع الحق والقوة والعدالة في مساراتها الصحيحة لتكتمل مشروعية المواقف والأفعال والقرارات والمبادرات، أما إذا خرجت عن كل ذلك وسارت في منحى مغاير للحق والقانون تحولت إلى أهواء وأمزجة فاقدة للمشروعية تزيد الوضع تعقيدًا وتبعده عن الحل.
الخلاصة:
أولًا: توصيف قضية شعب الجنوب هي قضية استعادة الهوية الوطنية المستقلة للشعب، وهي أيضًا قضية استعادة السيادة الكاملة على أرضه بحدودها الدولية المعترف بها دوليًا، وحقه في تقرير مصيره، وهي اختصار قضية استعادة دولته الوطنية المستقلة، واستعادة وضعها الحقوقي والقانوني في مؤسسات الشرعية الإقليمية والدولية کما کانت قبل مايو 1990.
ثانیًا: أطراف القضية: هما الطرفان الشرعيان المتمثلان بالشعبين في كل من الجنوب والشمال ومن يعبر عن الإرادة العامة لكل من الشعبين (الإرادة الشعبية في الإقليم الجغرافي لكل طرف).
ثالثًا: الطرفان عضوان في النظام الإقليمي العربي ويسري عليهما ما يسري على بقية الشعوب العربية. والإعلان الوحدوي بين الطرفين في مايو 1990 كان نموذجًا انتهى بالفشل مثله مثل نموذج الوحدة المصرية السورية، ونموذج غزو العراق لدولة الكويت وضمها إلى دولة العراق. ومرجعية ميثاق الجامعة العربية تمثل مرجعًا لضبط العلاقات وتصحيحها بین الدول العربية المنضوية في إطار الجامعة ومنها العلاقة بين الشعبين والدولتين في الحالة اليمنية.
رابعًا: الشعبان و دولتيهما دولًا كاملة العضوية في الأمم المتحدة وبقية مؤسسات الشرعية الدولية، ويمثل القانون الدولي والمبادئ التي يقوم عليها النظام الدولي وميثاق الأمم المتحدة العنصر الثالث المكمل للإطار المرجعي لحل قضية شعب الجنوب وحل الإشكال مع الشمال.
خامسًا: تمثل العناصر الثلاثة إطارًا ملزمًا تلتزم به جميع الأطراف المنغمسة في إدارة حل الصراع القائم بين الطرفين. وما صدر حتى الآن من قرارات و بيانان أو مبادرات كان موجهًا لمعالجة النتائج وتركت معالجة الأسباب إلى المرحلة النهائية، حيث كرست معالجة النتائج لتمهيد الطريق للخوض في معالجة الأسباب. أما الاكتفاء بمعالجة النتائج والإبقاء على الأسباب، فهذا كفيل بإعادة إنتاج الصراعات المدمرة وعلى نحو أكثر مأساوية.
* أستاذ الفلسفة السياسية المساعد بجامعة عدن.