السبت, 05 يوليو 2025
94
في وطنٍ أنهكته الحروب، وعلى أرضٍ تتكسّر فيها الأحلام فوق صخور التقاليد المتشدّدة، تنبعث أصوات لا يسمعها الكثيرون…
إنه نداء الشابات اليمنيات.
لكن، ماذا يحدث حين تتكلم فتاة؟
وليسَت أي فتاة… بل شابة يمنية، وُلدت في قلب العاصفة، وتربّت على لحن الصبر، واختارت أن تجعل من كلماتها نبضًا لأجيالٍ لم تولد بعد.
في يومٍ لا يُنسى، اعتُقلتُ فقط لأنني آمنتُ.
لا لذنبٍ اقترفتُه، بل لأنني بهائية، متمسكة بما أؤمن به من حقّ وحرية وكرامة.
اقتادوني إلى غرفةٍ باردة، وهناك وقفتُ أمام قاضٍ لا يعرف سوى لغة الصراخ.
صرخ في وجهي قائلًا: “أنتِ كافرة، وأبوكِ كافر… ولو كانت ابنتي مثلك، لضربتُها حتى تصمت!”
رفعتُ عينيّ إليه، لا بتحدٍّ، بل بكرامة من يعرف قيمة الإنسان.
قلت له بهدوء: “لو أنك سمحت لابنتك أن تتكلم، وسمعتها باحترام، لما احتجتَ إلى الضرب. هي ليست للسيطرة، بل للرعاية. هي ستكون أمًا، معلمة، منشئةً لأجيال… أفلا تستحق أن تُكرَّم؟”
في تلك اللحظة، تهاوت أمامي صرخاته، وتقدّمت في ذهني صورة محفورة بعمق…
ذكريات والدي الحبيب، المعتقل حينها، تطلّ عليّ بنورها.
رغم ضيق الأيام، كان صوته الدافئ يواسيني، وابتسامته في ذروة المحنة تمنح قلبي عزيمة لا تلين.
كان ينظر إليّ بعينين فيهما نور المشورة، ويقول بلطفٍ لا يُنسى: “ما رأيكِ يا جواهر؟ قولي لي ما في قلبكِ… رأيكِ مهم.”
لم يكن يسألني ليُرضي غرورًا، ولا ليثبت سلطة، بل فقط لأنه آمن بي.
آمن أنني أستحق أن أُسمع، وذلك كان كافيًا… كافيًا ليغرس في داخلي الصبر، ويوقظ في روحي القوة، ويُعلّمني أن احترام صوت “ابنته الكبيرة” كما كان يناديني هو انعكاس لرُقيّ داخلي، لا تجاوز لحد.
واليوم، حين أسترجع تلك اللحظات، أقول بكل يقين: حين نمنح الفتاة حق التعبير، فإننا نمنح الأم القادمة، والمربية القادمة، والأسرة القادمة فرصة أن تنسج عالمًا جديدًا.
وحين تُحترم الشابة اليمنية لا لكونها “أنثى” فحسب، بل لأنها إنسانة ذات رأي، وروح، وكرامة، فإن صوتها يُصبح نورًا لا يُطفأ.
فالأسرة لا تُبنى على الموروث وحده، وما كان كافيًا لأجدادنا قد لا يكفي لأجيال تتطلّع إلى أفقٍ أرحب.
الأسرة الحقيقية تُبنى بالأصوات التي تُسمَع، وبالقلوب التي تُنصت، وبالمحبة التي تُعاش، وبالمشورة التي تُضيء الطريق.
تُبنى حين يشعر كل فرد، صغيرًا كان أو كبيرًا، أنه حرّ في التعبير عن فكره، دون خوف أو كتمان أو تقليل من شأنه.
فيا من تطمحون لتغيير المجتمع، أبدأوا بسماع أصوات الشابات، كما تُصغون لأصوات الشباب.
فلا مستقبل يُبنى ونصفه صامت، ولا وطن ينهض إن أُقصِي نداء من خُلِقنَ ليغذّينَ روحه بالحنان والبصيرة.
وفي يمنٍ يبحث عن زرعٍ جديد، قد تكون كلمة شابة، تُقال باحترام، كفيلة بفتح دروب لم تفتحها القوّة قط.
لأن صوتها ليس صدى… بل بداية لعالمٍ أجمل.
ودمتم في كنف الله، سالمين مؤيَّدين..