لا زلنا نبحث عن الذات!

> جلال عبده محسن

>
تصور المستقبل لا يكون محض خيال بقدر ما هو امتداد للحاضر ووثيق الصلة به، ولأن الحاضر الذي نعيشه بات مثقلا بالالتباس، هذا الالتباس لم تشهده غالبية المجتمعات الأخرى، حيث إن جديدهم انبعث من قديمهم، وقديمهم هو الذي أفضى إلى جديدهم، على اعتبار أن الجديد لا يهبط دفعة واحدة من السماء، بل يأتي على أنقاض القديم وكمراحل تراكمية. لذلك فالجديد عندهم لم يبدأ من الصفر بل من القائم، أما «نحن» وبكل ما تعنيه الكلمة من تأكيد قوي للذاتية فإن الأمر تشابه علينا وأن سنوات الوحدة «العجاف» وكأن الزمن قد توقف بنا وأظهرها لنا عن كونها سنوات مكتسبة لا محتسبة في معيار الحاضر. سنوات جعلتنا ومن منظور اليوم نقف حائرين بين ما كان مأمولا وما هو معمول، فقد أظهر لنا الحاضر من المشاهد والسلوكيات والقيم ما هو أسوأ من مشاهد الأمس وأفرز مظاهر وسلوكيات مشينة وحالة من السخط والإحباط والتذمر بين الناس..

 بل وأوجد حالة من اليأس وفقدان الثقة عند الكثيرين في المجتمع، وهي مشاهد وسلوكيات لاشك بأنها مختلفة عن مشاهد الأمس ولا زلنا نعاني من صعوبة العيش ومن فساد في مختلف نواحي حياتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ومن غياب القناعة الكافية بدولة المؤسسات وغياب لفاعلية النظام والقانون، مشكلتنا لم تكن بسبب الفقر ولا بقلة الموارد سواء أكانت البشرية أو الطبيعية، بل بغياب الحكم الرشيد ومن سوء للإدارة وسيطرة غير الأكفاء على موقع صنع القرار.           لقد عانينا من نظام ظلت نظرته للتميز أمام الرأي المحلي والإقليمي تقف عند حدود اللفظ لمصطلحات اللغة والتاريخ والعمق الإستراتيجي والمصير المشترك لكسب ودّ الأشقاء والأصدقاء بدلا من أن يكون تميزنا وكمصدر فخر في الإنسان نفسه وبقدراته، حتى حقيقة أنفسنا تظل هي الأخرى مثقلة بالالتباس، بل ويشير الأمر إلى حالة من الانفصام في الذات يعيشها الإنسان ويعيق تقدمه إلى الأمام، ولم نعد نعرف حتى اللحظة حقيقة الدولة التي نعيش عليها وتسميتها هل هي «الفيدرالية» أو «الكنفدرالية» أو حالة الانفصال الزاحفة.

إننا أمام إقرار تاريخي بتأخرنا، وأن سنوات الوحدة جعلتنا لا نملك مشروعا وطنيا حقيقيا للتنمية الاقتصادية الشاملة ولا رؤية ثاقبة للمستقبل ولا فلسفة ولا فكرا، وهي أهداف للوحدة الوطنية الحقيقية والتي قامت من أجلها، لذلك وإن كنا نحن معشر الجيل الذي شهدنا سنوات ما قبل الوحدة ومدركين لحقيقة الأوضاع التي عايشناها في الجنوب ولا زلنا متعايشين مع سنوات ما بعدها بإذنه تعالى، فإننا وإن كنا قد خسرنا كماً لا يستهان به من مظاهر وإيجابيات الماضي القريب، وقد بددتها وأهدرتها سنوات الوحدة كقيمة مضافة يفترض بها أن تكون مواكبة للحاضر، ومع ذلك وبقدر ما يحمله الواقع من مرارة ويأس من الأوضاع وأي كانت تلكم المرارة والخسارة التي تولدت من وقائع الماضي، إلا أننا لا بد من أن ندرك أن الشيء المتاح والذي يجب أن نترك الباب مفتوحا على مصرعيه لاستقباله بترحاب هو أملنا الكبير بالله ثم بجيل الشباب وصنّاع الغد وامتلاكهم للمستقبل، فأمامهم الكثير من النجاح والازدهار وبشائر الأمل، أما نحن فلم نعد نملك الكثير، وقد اكتفينا بما كنا نملكه في الماضي، وإن كان الماضي ليس جميلا، ومع ذلك نحاول استدعاءه وإعادة إنتاجه كلما دعت الضرورة إلى ذلك لنعوض به تخلف وبؤس الحاضر الذي نعيشه، وبانتظار الكشف عن الذات والموجودة في العربات الأخيرة من القطار تنقاد حيثما تريدها مقدمة القطار. ​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى