​مات شاعر.. صبوحة خطبها نصيب

> علي ناصر محمد

> مات المناضل والمفكر والأديب والشاعر فريد بركات، الفريد في أدبه وشعره ونثره وأخلاقه ورقته ومواقفه المبدئية الصادقة.
حمل في قلبه قضية الوطن والمواطن والأدب والفن، عاش شريفاً ومات عفيفاً، بعد معاناة مع المرض، وللأسف فإن قيادة الشرعية لم تبادر لعلاجه، ومات وهو يطلب العلاج في أي مستشفى، كما مات قبله عبد الله صالح البار وعلي صالح عُباد (مقبل)، وهما يطلبان العلاج في الخارج، وغيرهما الآلاف بعد أن أُغلقت معظم المطارات منذ خمس سنوات، وتوقفت الرحلات في كل من صنعاء والمكلا وعواصم المحافظات باستثناء عدن التي يتم السفر منها بشق الأنفس، وموت البعض وهم في الطريق إليها، أو في أثناء رحلات الطيران إلى مصر والأردن.

أما آن لهذه المطارات أن تفتح وللمعاناة أن تنتهي؟ أما آن لهذه الحرب أن توقف؟!
مات الشاعر الرقيق والمثقف الكبير وهو يطلب العلاج، كما شرح لي حالته في رسالته الأخيرة بتاريخ 14 مايو، أي منذ خمسة أيام، عندما طلبت منه أن يكتب عن تجربته في وزارة الثقافة والحركة الثقافية في عدن منذ عام 1990م لتوثيقها والاستفادة منها في مذكراتي، وجاء رده: «أخي الحبيب أبا جمال. يسعدني، بل ويشرفني أن ألبي ما طلبتموه مني بخصوص الكتابة عن تجربتي في وزارة الثقافة والحركة الثقافية في عدن إلى عام 1990م. إلا أن هذا الطلب الغالي الذي كنت أرجو القيام به خير قيام، ولا سيما أنه جاء من أخي الحبيب الغالي أبي جمال، جاء في وقتٍ عصيٍّ عصيب بالنسبةِ إلي، فأنا أعاني منذ قرابة الأسبوعين من أزمة صحية جديدة، تمثلت في تكرار ما حدث لي قبل 20 عاماً من ذبحةٍ صدرية أو قلبية استدعت القيام بعملية قلبٍ مفتوح تكلّلت بالنجاح، آنذاك ولله الحمد، وقد سببت لي عودة هذه الأزمة القلبية منذ حوالى أسبوعين ألماً في الصدر وكظمة في التنفس لعدم وصول الأوكسيجين إلى القلب، مرتين في اليوم حتى الآن، إضافة إلى ما تسببه لي من إنهاك جسمي وإرهاق صحي عام، لا يمكنني من القيام بأي شيء ذي فائدة فكرية أو مقدرة على التركيز الذهني على الأقل في حدِّه الأدنى. أعذرني أخي الحبيب أبا جمال، فليس بالإمكان أبدع مِمّا كان. (غالي والطلب رخيص) كما يقولون. مع تمنياتي لكم بالتوفيق والنجاح الدائمين، في جميع مهامكم الوطنية النبيلة». وهنا تنتهي رسالته، وكأنه يودعنا جميعاً.

وقد حاولت أن أساعده في العلاج عبر معرفتي الشخصية ولكن دون جدوى، فهؤلاء لا يسمعون صوت المرضى وأنينهم ومعاناتهم، وإنما يسمعون صوت الرصاص والسلاح فهم مشغولون باقتسام السلطة والثروة في اليمن وخارجها، وأيضاً بالحروب التي تحولت إلى أكبر مصدر للثراء السريع، وقد أثرى تجار الموت والحروب من هذه الحرب كما أثرى تجار السلاح منها، والشعب هو وحده من يدفع الثمن.

مات الأديب والشاعر الذي غنى له بعض الفنانين الكبار كأحمد قاسم و فتحية الصغير (حمام الشوق) وغيرها، كما غنت له الجماهير أغانيه التراثية والعاطفية والوطنية، ومن منا من لم يسمع بأغنية (صبوحة خطبها نصيب) واستطاع هذا الشاعر المبدع أن يستكمل القصيدة التي مطلعها:
صبوحة خطبها نصيب.. رغبانة وبوها غلب
وسرى الليل يالعاشقين.

كنا على تواصل مستمر عن الماضي والحاضر والمستقبل، وأتذكر أني تواصلت معه منذ فترة وأرسلت له تسجيل لأوركسترا ماليزية تعزف لحن أغنية (صبوحة)، التي كتب كلماتها، فرد علي بعد أن استمع إليها: «توزيع أوركسترالي جميل يا أبا جمال، لفرقة الأوركسترا الماليزية، لما يسمى في الموسيقى (بالموسيقى الخالصة) التي لا يرتبط بها غناء فردي أو كورالي. ولكن، ورغم جمال التوزيع الفني الأوركسترالي الجميل، يظل للأغنية بتركيبتها الفنية الشعبية المحلية وأداء المغني الفرد والكورال المرتبط به، طعمه الفني الغنائي المحلي الشعبي الخاص، الذي لا تغطيه ولا تحل محله الموسيقى الأوركسترالية الخالصة بحال من الأحوال».

وأضاف: «غنى عدد من المطربين من ضمنهم سعيد عبد المعين أغنية (صبوحة)، بعد أن انتشرت وذاع صيتها، بعد أن غنتها فرقة الإنشاد التابعة لوزارة الثقافة والسياحة لأول مرة على خشبة المسرح الوطني في الثمانينات. وقد كانت الأغنية في الواقع بيتا تراثياً واحداً قديما، يُغَنّى في المدن الساحلية الجنوبية في سواحل أبين وشقرة ولحج وحضرموت، مجهول المؤلف، وهذه هي طبيعة الغناء والألحان التراثية القديمة جداً، أن تكون مؤلفة من بيت تراثي شعبي قديم واحد أو بيتين، على أكثر تقدير. مثل البيت التراثي (الصعيدي) القديم الذي غناه عبدالحليم حافظ في أغنية «أنا كل ما قول التوبة يا بوي ترميني المقادير»، ثم قام الشاعر عبدالرحمن الأبنودي بتوظيفه فنياً في الأغنية بعد أن أضاف إليه مذهباً وكوبليهين ولحّن الأغنية بليغ حمدي. وهذا ما حدث لي في أغنية (صبوحة) التي كانت مؤلفة في الأصل من بيت شعري شعبي واحد تراثي قديم وقفلة موسيقية لحنية هي (وسرى الليل يا العاشقين)، والبيت هو:
بدوية خطبها نصيب.. رغبانة وبوها غلب، أو «ألب» (بلهجة أبين)
وسرى الليل يا العاشقين.

وأنا عند توظيف البيت الشعري الشعبي القديم فنياً بدلت كلمة (بدوية) في مطلع البيت بكلمة (صبوحة) لأعطيها معنى الصباح، وما يرتبط به الصباح من قيم وطنية وفنية ومعانٍ خليطة من التعبير الفني والوطني والرومانسي فأصبحت لفظة صبوحة هي السائدة في الأغنية وانتشرت بهذا المعنى الجديد، بعد أن أضَفتُ إليها عشرين بيتاً من تأليفي من ضمنها:
صبوحة أبوها البليد
رابطها لأهل الرتب
وسرى الليل يا العاشقين..
صبوحة تحب الصباح
ما ترضى بوزنه ذهب
صبوحة تحب النهار
تتنفس هواه الرطِب

إلى آخر العشرين بيتاً الإضافية التي وضعتها أنا في القصيدة. وآخر بيت فيها هو:
صبوحة تصد الغريب
الغازي قليل الأدب.. وسرى الليل يالعاشقين.. ألخ..

ولكن للأسف الشديد غناها بعض المطربين الشعبيين، بعد أن ذاع صيتها، أمثال سعيد عبد المعين وغيره من حضرموت وآخرين من بعض المناطق الريفية، وأيضا من السعودية والبلدان الخليجية فشوهوا كلماتها وابتذلوا بعض الكلمات فأفقدوها معانيها الوطنية السامية واستبدلوها بكلمات مبتذلة للأسف الشديد. وقد قام بتوزيع لحن (صبوحة)، وليس بتأليف لحنها، الفنان أحمد بن غودل، لأن لحنها أيضاً لحنٌ تراثيٌ شعبيٌ قديم». وهنا انتهت رسالته وكلماته الجميلة عن (صبوحة).

مات الثنائي الجميل الأخوان (فريد وقبله زكي بركات) اللذان ارتبط اسمهما بالثقافة والفكر والأدب في وطننا، وفي الزمن الجميل الذي أضعناه بحماقاتنا ومزايداتنا وتطرفنا بالشعارات حتى اليوم.
المجد والخلود لهذا الثنائي الجميل، والصبر والسلوان لأصدقائهما ومحبيهما.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى