​بين روسيا وأميركا.. الهند تبحث عن مصالحها وتقاوم ضغوط الاصطفاف

> واشنطن«الأيام» نيويورك تايمز:

> في مجلسه بمبنى الحكومة المقبب، لا يحتاج وزير الخارجية الهندي، سوبرامنيام جيشانكار، إلى من يذكره بأمواج التاريخ التي طوت صفحة الأنظمة العتيقة إيذاناً ببدء أخرى جديدة.  

"هذه هي لحظة التحول التي حانت اليوم"، فالنظام العالمي الذي لا يزال متجذراً في الغرب "يُلقى به خارج الوجود" بفعل الحرب في أوكرانيا، ليحل محله "عالم الانحيازات المتعددة"، حيث ستختار الدول "سياساتها وتفضيلاتها واهتماماتها"، حسب ما أعرب جيشانكار في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز".

ووفقاً للصحيفة، فإن هذا "بالتأكيد" ما فعلته الهند منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، في 24 فبراير الماضي، إذ "لم ترضخ للضغوط الأميركية والأوروبية لإدانة الغزو الروسي في الأمم المتحدة، وحولت موسكو إلى أكبر مورد لها للنفط، ورفضت النفاق الغربي. وبعيداً عن الخطاب الاعتذاري، كانت نبرتها رنانة ومصلحتها الذاتية بارزة بلا مواربة".    

جيشانكار قال لـ"نيويورك تايمز" أيضاً: "ما زلتُ أرغب في أن أرى عالماً يستند إلى طيف أوسع من القواعد"، قبل أن يستدرك قائلاً: "ولكن عندما يبدأ الناس في الضغط عليك باسم نظام مستند إلى قواعد للتخلي عن هذه الرغبة، وللتنازل عن مصالح بالغة الأهمية، في هذه المرحلة أخشى أن يكون من المهم أن تقاوم، وأن تطعن على هذه الضغوط، وإذا لزم الأمر أن تجهر بذلك".  

نفط روسيا

بعبارة أخرى، وفقاً للصحيفة الأميركية، فإن الهند، التي يبلغ تعداد سكانها 1.4 مليار نسمة، وتوشك أن تتفوق على الصين كأكبر دولة في العالم من حيث التعداد السكاني، في مسيس الحاجة إلى النفط الروسي الرخيص للحفاظ على مستوى نموها السنوي الذي يبلغ معدله 7%، ولتخليص الملايين من حلقة الفقر.  

هذا الاحتياج، كما أردفت الصحيفة، "غير قابل للتفاوض". فالهند تلتهم النفط الروسي الذي تطلبه بالكامل، وأحياناً تضيف إليه كميات أخرى للتصدير.  

بالنسبة لجيشانكار، فإن الزمن قد تجاوز معادلة "مشاكل أوروبا هي مشاكل العالم، ولكن مشاكل العالم لا تخص أوروبا".

وقالت الصحيفة إن "الحرب الأوكرانية التي أثارت غضباً أخلاقياً في الغرب بسبب الفظائع التي اقترفتها أيدي روسيا، أثارت نوعاً آخر من الغضب في أماكن أخرى، يستند إلى التوزيع العالمي غير العادل، والذي عفى عليه الزمن، للقوة".  

وفي الوقت الذي أدت فيه العقوبات الغربية إلى ارتفاع تكاليف الطاقة والغذاء والأسمدة، ما تسبب في وقوع الدول الفقيرة تحت وطأة مشكلات اقتصادية خانقة، أثارت هذه العقوبات أيضاً استياء وحنق عدد من الدول في آسيا وإفريقيا ضد الولايات المتحدة وأوروبا.  

وعلى حد تعبير "نيويورك تايمز"، تبدو حرب الخنادق الطاحنة التي تدور رحاها في الأراضي الأوروبية "شأناً بعيداً بالنسبة للآخرين". ومع ذلك، تبدو تكلفتها الاقتصادية عليهم "مباشرة وفورية وملموسة".

مفترق طرق

في هذا السياق، قال جيشانكار لـ"نيويورك تايمز" إنه "منذ فبراير الماضي، استوردت أوروبا من روسيا 6 أضعاف ما استوردته الهند من طاقة الوقود الأحفوري"، مضيفاً أنه "إذا كان المجتمع الذي يبلغ نصيب الفرد فيه 60 ألف دولار يشعر بأنه بحاجة إلى الاعتناء بنفسه، وأنا أتقبل ذلك باعتباره أمراً مشروعاً، فلا يجب عليهم أن يتوقعوا أن يرضى المجتمع الذي يبلغ نصيب الفرد فيه ألفي دولار بالضرر لنفسه".  

"هنا"، وفقاً للصحيفة، "يأتي رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ليدفع بجميع مصالح بلاده بقوة وحزم جديدين، نافضاً عن نفسه غبار أي شعور بالدونية، ورافضاً أي انحياز أعمى أو اصطفاف خالص في خندق الغرب".  

وتطرح الصحيفة تساؤلاً مهماً: "ولكن أي هند سترتقي درجات المسرح العالمي في القرن الحادي والعشرين؟ وكيف سيكون تأثيرها محسوساً؟".

وفقاً لـ"نيويورك تايمز"، تقبع الهند على مفترق الطرق بين "التعددية المفعمة بالحياة" التي وهبها لها النظام الديمقراطي الذي تبنته منذ استقلالها في عام 1947، و"التحول صوب اللاليبرالية في عهد مودي".

ورغم ذلك، "لا تزال الديمقراطية والحوار قويين في الهند". وتستدل الصحيفة على ذلك بخسارة حزب بهاراتيا جاناتا القومي الذي يترأسه مودي الانتخابات البلدية في دلهي مؤخراً، كما "لا تزال شعبية رئيس الوزراء قوية". وبالنسبة لكثيرين "تبدو الهند أكبر حجماً وأكثر تنوعاً من أن تخضع لإملاءات وشروط قومية موحدة".  

تأجيج صعود الهند

ولم يكن في نظام ما بعد الحرب مكاناً للهند على الطاولة الرئيسية. ولكن الآن، عندما منح العدوان العسكري الروسي على أوكرانيا صورة لا خداع فيها لما يبدو عليه عالم الأقوياء والتنافس الإمبريالي، فربما تمتلك الهند القوة لإمالة الميزان إما صوب نظام تهيمن عليه التعددية الديمقراطية أو صوب نظام يهيمن عليه القادة القمعيون، حسب ما ذكرت "نيويورك تايمز".

ولم يتضح بعد إلى أي جانب ستميل قومية مودي. لقد منحت هذه القومية الكثير من الهنود شعوراً جديداً بالفخر، وعززت المكانة الدولية للبلاد، حتى لو أدّى ذلك إلى إضعاف النموذج الهندي العلماني التعددي.

وفقاً لـ"نيويورك تايمز"، "تبدو الهند في عهد مودي مفعمة بالثقة"، مشيرة إلى أن الحرب الأوكرانية التي ضاعفت آثار وباء فيروس كورونا قد "أججت صعود الهند".

إذ دفع الوباء ومن بعده الحرب بالشركات إلى جعل سلاسل الإمداد العالمية أقل عرضة للخطر عن طريق تنويعها من خلال الانفتاح على نيودلهي. كما فاقمت الجائحة والحرب من حدّة الاضطرابات الاقتصادية العالمية التي كانت الهند بمعزل عنها نسبياً بسبب سوقها المحلي الضخم.

هذه العوامل أسهمت في خلق توقعات راسخة بأن الهند، التي تحتل الآن المركز الخامس، ستصبح "ثالث أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030"، بعد الولايات المتحدة والصين، وفقاً للصحيفة.  

رهانات مودي

يريد مودي، كما تستقرئ "نيويورك تايمز" من "هذه الخريطة المفصلة لما هو روحاني وما هو سياسي"، أن يحول رئاسة الهند لمجموعة الـ20، في عام 2023، إلى "منصة رئيسية لمحاولة إعادة انتخابه رئيساً لوزراء البلاد لولاية ثالثة في عام 2024".  

فالشعار المعلن على الشاشة هو "مسؤولية كبيرة، طموحات أكبر"، والاجتماعات الخاصة بمجموعة الـ20 يجري التخطيط لها على قدم وساق في جميع الولايات الهندية، على مدار العام المقبل، بما في ذلك الاجتماع الذي ستستضيفه مدينة فاراناسي في أغسطس.

وتريد الهند أن توجه رئاستها لمجموعة الـ20 لكي تجعل العالم "عائلة واحدة"، ولكي تجعل الحاجة إلى "النمو المستدام" الشغل الشاغل لهذه العائلة.

وتريد أيضاً تسريع وتيرة "التحول في البلدان النامية"، عبر "القفزة النوعية في مجال التكنولوجيا"، حيث ترى الهند، بقدرتها على التواصل شبه العالمي، في نفسها نموذجاً لذلك.  

فنحو 1.3 مليار هندي لديهم الآن هوية رقمية. والوصول إلى جميع الأنشطة البنكية عبر الإنترنت، من خلال الحسابات البنكية الرقمية، الذي كان يوماً حكراً على الطبقة المتوسطة، بات أمراً شائعاً خلال السنوات الثماني التي قضاها مودي في سدة الحكم، حيث تم تمكين الهنود الأكثر فقراً.

دور الوسيط

وفي قمة مجموعة الـ20، التي استضافتها جزيرة بالي، في إندونيسيا، في نوفمبر الماضي، لعبت الدبلوماسية الهندية دوراً محورياً في إيجاد لغة توفيقية بعد ما ضغطت العديد من الدول الغربية لتوجيه انتقادات حادة ضد روسيا بشأن أوكرانيا، أو حتى من أجل طرد موسكو من المنتدى.  

وجاءت عبارة "هذه الحقبة لا ينبغي أن تكون للحرب"، التي وردت في إعلان القادة، والإشارة إلى "الدبلوماسية والحوار"، تكراراً للكلمات التي قالها مودي لبوتين في سبتمبر.  

وبشأن ما إذا كانت الهند، في ضوء علاقتها بروسيا، قادرة على التوسط لوقف إطلاق النار في أوكرانيا، قال جيشانكار، لـ"نيويورك تايمز" متشككاً، إنه "يجب على الأطراف المعنية الوصول إلى موقف معين، وأن يكون لديها عقلية معينة".  

ورداً على سؤال حول متى تنتهي الحرب، قال وزير خارجية الهند للصحيفة: "لا أستطيع في هذا الصدد أن أخاطر حتى بالإعراب عن رأيي".  

رغم ذلك، تريد الهند أن تكون "قوة جسرية" في العالم الذي خلفته الجائحة والحرب في أوكرانيا، إذ تعتقد الهند أن مَد الترابطية والعلاقات الذي يحكم العالم اليوم يفوق جَذر التشظي والانقسام، ويجعل الحديث عن تجدد الحرب الباردة محض هراء.  

وإذا كان لا بد أن يعيش العالم فترة من الفوضى نتيجة تراجع القوة الغربية، فإن هذه الفوضى ستهدأ على الأرجح بفعل الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين دول العالم، وفقاً للسردية السياسية الهندية.

ومع تفاقم عدم المساواة وانعدام الأمن الغذائي وتغير المناخ، تتساءل المزيد من الدول عن الإجابات التي يمكن أن يقدمها نظام ما بعد عام 1945، الذي يهيمن عليه الغرب. ويبدو أن الهند تعتقد أنها يمكن أن تلعب دور الوسيط لرأب الصدع بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب.  

توتر مع الصين وباكستان

وقال جيشانكار لـ"نيويورك تايمز": "أود أن أؤكد أنه على مدى تاريخها بشكل عام، احتفظت الهند بعلاقة أكثر سلمية وإنتاجية مع العالم مقارنة، على سبيل المثال، بأوروبا"، مضيفاً أن الأخيرة كانت "توسعية، لهذا كان لدينا الحقبة الاستعمارية والإمبريالية. أما الهند، فبرغم وقوعها تحت براثن الكولونيالية لقرنين من الزمان، إلّا أنها لا تكن أي عداء أو غضب ضد العالم. إنها مجتمع منفتح للغاية".  

الهند تقع أيضاً في مكان وسط بين قوتين معاديتين هما باكستان والصين. وإذا كان التصعيد على الحدود بين الهند والصين وارداً في أي لحظة، فإنه يبدو من غير المحتمل أن الهند يمكنها التعويل على روسيا بهذا الشأن، نظراً لاعتماد موسكو المتزايد، على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، على الصين، ما يجعل العلاقة الاستراتيجية بين الهند والغرب بالغة الأهمية.  

رغم ذلك، فإنه في ضوء الحرب في أوكرانيا، "يتكيف كل طرف مع حقيقة أن الطرف الآخر سيختار مبادئه".

ويشير هذا وفقاً لـ"نيويورك تايمز" إلى أن الهند تجد نفسها في وضع حرج. ففي مواجهة الانتقادات الأميركية، اختارت الهند أن تشارك هذا العام في التدريبات العسكرية الروسية التي تضمنت وحدات من الصين.  

وفي الوقت نفسه تمثل الهند جزءاً من تحالف يضم 4 دول يعرف باسم "المجموعة الرباعية" (الكواد)، والذي يضم مع الهند الولايات المتحدة واليابان وأستراليا، ويعمل من أجل حرية وانفتاحية منطقة المحيطين الهندي والهادئ.    

يعني هذا، وفقا للصحيفة الأميركية، أن الهند تمارس التعددية الانحيازية، وتأخذ مسار تعدد الاصطفافات بنجاح، وأن الحرب في أوكرانيا عززت التزام نيودلهي بهذا المسار.  

مواقف واشنطن

وإذا كانت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن غير راضية عن المقاربة الهندية الروسية منذ غزو موسكو لكييف، فإنها تقبل بها من ناحية أخرى، إذ تتطلب الواقعية السياسية الأميركية عدم عزل مودي في ظل صعود نظيره الصيني شي جين بينج.  

وفي هذا السياق قال فينكي نايك، رجل الأعمال المتقاعد لـ"نيويورك تايمز" إن الأغلبية العظمى من الهنود تستيقظ على حقيقة "عدم حاجتنا إلى الأيديولوجيا الغربية، وإننا قادرون على تحديد مسارنا، وإن مودي جدير بثقتنا بهذا الخصوص".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى