> إعداد/ د.ياسر عمر الهتاري
هما أخوان اثنان، لكن الحديث عن إنجازهما لا يكون إلا وكأنهما شخص واحد، فهما أخوان درسا في نفس المدرسة الابتدائية والثانوية وكلاهما موهوب في الميكانيك، ولم يتحصل أي منهما على أية مؤهلات عالية، والاثنان كانا شغوفين بحلم الطيران، والاثنان خلدهما التاريخ ولنفس الإنجاز وبخطوة واحدة.. إنهما الأخوان (أورفيل و ويلبور رايت) مخترعا الطائرة ذات المحرك.
كانت بدايتهما في دكان لبيع وترميم الدراجات الهوائية، وكان لهذا المشروع الصغير دوراً في تمويل مشروعهما للطيران، فالأخوان رايت كانا قد اشتهرا بالتحليق بالطائرات الشراعية واكتسبا شهرة كبيرة على مستوى العالم بالطيران بأكثر من ألف تحليق ناجح، وكان ما يميز تفكيرهما أنه في حين كان يفكر من سبقهما في كيفية إقلاع الطائرة عن الأرض كانا هما يفكران في كيفية التحكم بها بعد إقلاعها، وفي سبيل ذلك وضعا أكثر من 200 تصميم للأجنحة وحركة الهواء، مع الملاحظة بأنهما لم يفكرا للحظة ببناء طائرة ذات محرك فكل محاولاتهما كانت فقط لبناء طائرة شراعية أكثر أماناً و ذا قدرة أكبر على التحكم، والسبب ببساطة أنه لم يكن المحرك المناسب قد اخترع بعد، فالمحرك البخاري الذي يعمل بالفحم والمعروف حينها لا يمكن التفكير فيه كمحرك لطائرة.
وكان للقدر دوره، وحانت الساعة المناسبة التي دفعتهما للتفكير في تغيير خططهما والبدء بمحاولات لبناء الطائرة ذات المحرك، وذلك حين تم الإعلان عن اختراع المحرك ذي الاحتراق الداخلي والذي كان مناسباً لوضعه على هيكل الطائرة، حيث كان تصميمه وحجمه والوقود السائل الذي يعمل به مساعداً على ذلك، إلا أن المعضلة كانت في أنه ثقيل الوزن.
فاستعان الأخوان رايت بمهندس ميكانيكي بارع وصنعوا معاً محركاً معدلاً من محرك الاحتراق الداخلي يكون أقل وزنا ليكون مناسباً لوضعه على الطائرة، وكانت النتيجة أنهم قد صمموا آلة ذات كفاءة رائعة للبدء في بناء الطائرة ذات المحرك.
وكانت اللحظة التي حققت للبشرية حلماً طالما انتظرته في يوم 17 ديسمبر 1903م، وذلك حين انتهى الأخوان رايت من بناء طائرتهما والتحليق بها، وتمكن (أورفيل) من التحليق لمدة 12 ثانية لمسافة 120 قدماً وتمكن (ويلبور) من التحليق لـ 59 ثانية لمسافة 852 قدماً فقط، وكانت طائرتهما الأولى قد كلفت آنذاك حوالي 1000 دولار، ووزنها 750 رطلاً (حوالي 469 كيلو جرام) وبمسافة جناحين حوالي 40 قدماً.
وكما تدخل القدر باختراع محرك الاحتراق الداخلي، تدخل القدر أيضاً في أن جعل ما حققاه على الرغم من عظمته حدثاً مغموراً، حيث كان تحليقهما الأول بوجود خمسة مشاهدين فقط، كما أن أي من الصحافة حينها لم تكن قد تناولته، حيث تجاهلت الحدث كل الصحف المحلية تقريباً وحتى ما تم تناوله لم يكن دقيقاً، وكان لزاماً على البشرية أن تنتظر لخمسة أعوام أخرى حتى سنة 1908 حتى تعلم بأن تحليق الإنسان صار ممكناً.
وفي سنة 1905م صنعا طائرة أخرى وحلقا بها حوالي 105 طلعات، وأيضاً لم يلتفت أحد لهما أو لاختراعهما، وما أثار حفيظتهما أن صحيفة فرنسية كانت قد تهكمت على محاولاتهما للطيران وكتبت (طيارون أم هلاسون؟)، فما كان من (ويلبور) إلا أن شحن طائرته إلى فرنسا ونفذ بها عدة استعراضات جوية هناك ليثبت أن ما فعلاه كان حقيقة، بل إنه قد عمل على إنشاء شركة لتسويق طائرته هناك، بينما بقي (أورفيل) في أمريكا يقدم استعراضاته وتجاربه.
وتدخل القدر مرة أخرى لكن لصالحهما هذه المرة، حيث تحطمت طائرة (أورفيل) يوماً أثناء التحليق وكُسرت قدمه وضلعاه وقتل مرافقه، فبدأ الخبر بالتداول وكان ذلك في 17 سبتمبر 1908م، وكانت تلك الحادثة سبباً في تنبه وزارة الدفاع الأمريكية إلى الاختراع الجديد ومن ثم التعاقد معهما على بناء طائرات بقيمة 30 ألف دولار.
وتوفي (ويلبور) في 1912 و (أورفيل) في 1948م والفضل يرجع لهما في أن يحقق الإنسان ما لم يتحقق إلا في الخرافات والأساطير.. فحلم الطيران لم يكن يتحقق إلا في (بساط الريح) أو في (التنانين الطائرة)، واليوم لم يعد الطيران حلماً، فيومياً تحلق آلاف من الطائرات وتقطع ملايين من الكيلومترات عابرة للقارات والمحيطات، وتطور الأمر وأصبحت الطائرة هي الأم الشرعي لسفن الفضاء.
وفي كل رحلة جوية يجب ألا ننسى ما قام به الأخوان رايت قبل أكثر من مائة سنة، فقبل 3 أيام فقط من اليوم وتحديداً في 17 ديسمبر 2018 احتفى العالم بالذكرى 115 لتحليق أول طائرة ذاتية الدفع، وقبلها كان من السخرية أن تقنع إنسانا بأنه سيأتي يوم يطير فيه أسرع من صوته، فحتى بساط الريح لا يفعل ذلك، وبالتأكيد لا تفعله التنانين الطائرة، ومن يومها لم يعد الإنسان ملتصقاً بالأرض، فكانا بأعمالهما ممن غيروا وجه التاريخ.